في اليوم الخامس والعشرين من الشهر الماضي قام بعض المتطرفين المسيحيين بمحاولة حرق القرآن الكريم، بعد محاكمة هزلية استمرت ثمانية دقائق، وبحضور نيري جون راعي احدي الكنائس الإنجيلية الصغيرة في ولاية فلوريدا، القس جون قد أقام نفسه حاكما وقام أيضا بدور المدعي العام، كما كان القس جون مراقبا لجلسة المحاكمة، فهل ينجح القس المجذوب، ؟ ومن اي مستنقع يسقي هذا القس
في هذه السطور القليلة سوف أجيب علي السؤال باختصار، وسوف أركز علي السؤال الثاني الذي سيقودنا إلي بداية الإمبراطورية النصرانية بقيادة الإمبراطور قسطنطينوس
تناقلت وسائل الإعلام الأجنبية خبر حرق المصحف مستخدمة عبارة " حرق القرآن " ولكن القرآن غير قابل للحرق، ولو اجتمعت الجن والإنس علي أن يحرقوا القرآن، لن يطيلوا سوي حرق المصحف، والذي لا يعرفه القس الأحمق أننا نحن المسلمون أيضا نحرق المصاحف إذا ما تلفت، أتذكر عندما كنت طفلا صغيرا في الدوكسي الذي كانت تقوم عليه عمتي، كنا نحرق قصاصات المصحف بين الحين والآخر بأمر من معلمتنا أطال الله عمرها، وعندما طبع عثمان المصاحف التي أجمع عليها الصحابة، قام بحرق الصحف الشخصية، لاحتمال وجود الأخطاء، وذلك لأنها صحف شخصية دونها أفراد، واعتبر البقلاني ( ص 534 ) ما قام به عثمان رضي الله عنه من باب الواجب، لهذا قال علي بن أبي طالب " و وليت مثل ما ولى لفعلت مثل الذي فعل" ( ابن كثير، ج 7 ص 244 )
بالطبع، يوجد فرق بين حرق وحرق، فالمسلم إذا ما حرق المصحف، فأنه يقوم بذلك خشية من يقع في موضوع يمتهن فيه، بينما غرض القس نيري جون هي إهانة القرآن، وحرق قلوب المسلمين بحسب ما صرح به لجريدة أي بي سي، على أية حال، ليس بإمكان القس نيري جون ولا غيره حرق القرآن، لأن القرآن ليس محفوظا في الصحف كي يحرق أو يضيع بضياع المصاحف، إن القرآن محفوظ في صدور المؤمنين (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ) العنكبوت :49 ) إن حفظة القرآن اليوم بلغ عشرات الملايين حول العالم من مختلف الجنسيات، ومن آيات القرآن اننا نجد أطفالا لا يتحدثون العربية غير أنهم يتلون القرآن بدقة متناهية وعن ظهر القلب، فإذا كان هذا شأن القرآن فلن تحرقه القنابل الذرية، ودعك من معتوه يرعي كنيسة أتباعها لا يزيد عن خمسين شخصا
إن اي شخص عنده ذرة من العقل، يدرك ان اي محاكمة مدتها ثمانية دقائق لا يمكن أن تكون عادلة، فما بال محكمة قاضيها معتوه، ونفس هذا المعتوه هو المحامي وهو المدعي العام ... لا شك ان القس نيري جون ظلم نفسه، وإن يظلم فقد ظلم أخ له من قبل ويحرق فقد حرق أخ له من قبل، وليس أخ نيري جون سوي الإمبراطور قسطنطين، الذي يعتبر أول حاكم مسيحي للإمبراطورية الرومانية.
مرت النصرانية بفترات عصيبة منذ القرن الأول، عانت فيها اضطهادا قاسيا وصل إلي الذروة في حكم دقليديانوس فيما يعرف بعصر الشهداء، أواخر القرن الثالث، انتهت معاناة النصارى عام 311 بعد صدور وثيقة التسامح التي أعطت النصارى حق العبادة – قسطنطينوس كان أحد الموقعين على هذه الوثيقة التي مهدت لنشأة الدولة الكنيسة التي أخذت على عاتقها حرق الكتب وأصحاب الكتب
في عام 313 أصدر قسطنطينوس وثيقة تسامح أخرى عرفت بـ وثيقة ميلانو، ويري المؤرخ الكنسي الألماني فيلب تشاف ( ج2 ص73 ) أن الفارق بين الوثيقتين، ان الأولي أعطت النصارى حق العبادة مع الحذر الشديد، بينما وثيقة ميلانو اعتبرت النصرانية حليفة للدولة، وكانت تلك بداية حرق الكتب والعلماء،
أثناء هذه الحقبة الزمنية، كانت النصرانية شيعا كل حزب بما لديه فرحون، وتعج الساحة جدالات كرستولوجية حول شخصية المسيح، هل هو الله أم جزء منه أم هو تابع لله؟ هل هو واحد من الآلهة؟ هل هو واحد من ثلاثة، أم واحد من إثنين وسبعين إلها؟ هل هو من جوهر الله أم من جوهر مشابه؟ هل له روح إنسانية أم ليس له ؟ وهل وهل ( حنا الخضري، ج2 ص 55 )
ومقابل هذه الأحزاب، وقف آريوس وأصحابه معلنين انه كان الله ولم يكن المسيح، واشتعل الصراع بين أتباع الثالوث، وأتباع آريوس، وهنا جاء دور الإمبراطور قسطنطين الذي أخذ صف القائلين بالتثليث، وحسم الصراع، بسيفه
أراد قسطنطين أن يصبغ قراره بالشرعية، فدعي إلي مجمع مسكوني، عرف بـ مجمع نيقية، وكما كان القس نيري هنري كل شيء في محكمته الهزلية، كذلك كان قسطنطينوس في مجمعه، جلس في وسط القاعة، كقاضي ومصلح (Theodoret ch6 وقبل أن يصدر القرار بتأليه المسيح رسميا، قدم الأريوسيون، صيغة للإيمان، وكان موقف أصحاب قسطنطين كموقف القس نيري جون من القرآن، لا نقاش، لا حوار، بل حرق، تمزيق، وعيد وتهديد، حتى ان أتباع أريوس اخذوا في توجيه اللعنات إلي صاحبهم، ووقعوا علي قرار تأليه المسيح، خوفا ورعبا، وقد سجل هذا الموقف، المؤرخ الكنسي، تيورديت في القرن الخامس، وقال حرفيا
They drew up a formulary of their faith, and presented it to the council. As soon as it was read it was torn to pieces, and was declared to be spurious and false. So great was the uproar raised against them, and so many were the reproaches cast on them for having betrayed religion, that they all, with the exception of Secundus and Theonas, stood up and took the lead in publicly renouncing Arius. This impious man, having thus been expelled from the Church, a confession of faith which is received to this day was drawn up by unanimous consent; and, as soon as it was signed, the council was dissolved.
THE ECCLESIASTICAL HISTORY OF THEODORET Chapter VI.—General Council of Nicæa
لقد تم تمزيق صحيفة الإيمان المقترح، دون نقاش، لقد حكموا علي تلك الصحيفة بفكر القس نيري جون، بحسب رواية المؤرخ الكنسي ثيورديت في الفصل الثامن من تاريخه، وينصب ثيورديت إلي آريوس قوله بان الإبن خلق من عدم، وأنه قبل ان يولد لم يكن، ولذلك، فهو مخير في الطاعة والعصيان، ويصف المؤرخ هذه الأقوال بالهرطوقية، وان المجمع المقدس رفض الاستماع إلي تلك الترهات، مكتفيا بإمطار اللعنات علي قائلها، وبالطبع حرق صحيفته
وينقل لنا المؤرخ سقراطوس، Socrates P14 في الفصل التاسع، رسالة كتبها الإمبراطور قسطنطينوس، وفيها يبشر الكنائس بحرق كتابات أريوس، كي لا يبق له ذكرى بحسب قوله، ويختم قسطنطينوس رسالته قائلا بالإضافة إلي ذلك، فان أي شخص بحوزته كتاب لأريوس ولا يقدم علي حرقه فان عقوبته هي الموت وحفظكم الله
وبحرق كتابات أريوس، فقد العالم رواية الطرف الآخر في الصراع الأريوسي الأرثوذكسي، وليس بحوزتنا سوي رواية المنتصر الذي حرق كل ما لا يروق له ، ليس فقط ما يخص أريوس، ولكن كل سطر لا يتفق مع فهم الكنيسة تم إزالته، لهذا الإنجيل، بل ليس بحوزتنا سيرة للمسيح بقلم أتباعه الذين كانوا يتكلمون الآرامية، بينما الأناجيل التي تنسب إلي الحوارين مكتوبة باللغة اليونانية التي يكرهها اليهود
حرق الكتب ثقافة متأصلة في الكنيسة، ولم ينجو منها أحد حتى العلماء الذين تفتخر الكنيسة بهم، لم تنجوا كتاباتهم، شخصيات أمثال العلامة أوريجانوس، سطر مجلدات، ولكن لم يصل إلينا سوي القليل، لأن الكنيسة لا يعجبها عقيدة التبعية التي كانت سائدة في عصر أوريجانوس، فحكمت بحرق كتاباته،الأسقف بابياس الذي كتب خمسة مجلدات عن يسوع في القرن الثاني، لم يصلنا منه سوي سطور من خلال اقتباسات المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري، ومن الصدف العجيبة ان المؤرخ ثيورديب الذي نقل لنا بسعادة غامرة خبر تمزيق وثيقة قانون الإيمان الأريوسي، تم الحكم بحرق كتبه هو أيضا كما ذكر محرر تاريخه في المقدمة
لم يكتف إخوة نيري جون بحرق الكتب، وانما تعدى إلى أصحاب الأقلام، يجب أن يقطعوا إربا إربا يقول المؤرخ ثيورديت ( ج1 ف7 ) يجب أن يمزقوا وان كانوا من نفس الملة، فان عثرتك عينك اليمنى إقلعها وألقها عنك يقول القديس أثناسيوس مقتبسا من إنجيل متى ( المصدر السابق الفصل 1 )
لقد حرقت الكنيسة الملايين عبر تاريخها الدموي، ولأتفه الأسباب، أكثر ما كان يخيف الكنيسة، الكلمة المكتوبة، ترتجف من الكلمة وإن كانت الكتب المقدسة التي تؤمن بها، لذلك حاولت الكنيسة جاهدة، منع ترجمة الكتاب المقدس إلي اللغات الحية، حتى لا يستوعب الناس محتواها، ويظلوا أسرى للقساوسة، معتمدين عليهم في مفهوم الإيمان – وكان الحرق جزاء من يفكر في ترجمة الكتاب المقدس .. ضحايا النار الكنسية كثر، ولسبب ما يقفز إلي ذهن صاحب هذه السطور، العالم جون هاس الذي أعطاه الملك سيغسموند عهدا غليظا بأن لا يمسه أحد، إذا ما حضر لمناقشة فكره، وعن سبب تأييده لجون وايكليف الذي كانت جريمته الكبرى، ترجمة العهد الجديد إلي اللغة الإنجليزية، تقول الكاتبة إيلين وايت( ص53-59 ) أنه لما صار جون هاس بين أيدهم، أحاطوا به وأمطروا عليه اللعنات، في محاكمة شبيهة بتلك التي قام عليها القس نيري جون،
لم يسمحوا له سوي بكلمتين، تراجعت أولم أتراجع، لم يتراجع جون هاس، فألبس تاجا عليه صور الشياطين، وقبل أن يساق إلي النيران، قال ممثل البابا له: الآن أسلم روحك للشيطان، وأشعلت فيه النيران، وكان يرنم والنار تنهش في جسده، حتى هلك
أما وايكليف نفسه فلم تتمكن الكنيسة منه إلي بعد موته، لقد نجح وايكليف في إصدار أول ترجمة للكتاب المقدس في القرن الرابع عشر، وكان ذلك صفعة في وجه الكنيسة، ولم تتمكن منه الكنيسة، فلما مات، أخرجوا جثته وحوكم ميتا، وأمر البابا بحرق رفاته
من ذلك المستنقع يرتوي القس المعتوه نيري جون، وإن كان إخوة نيري كمموا أفواها كثيرة وأحرقوا بلايين الصفحات ووأدوا الآراء والأفكار، فأنهم لن يطولوا القرآن الذي بلغ الليل والنهار، ولم يبق بيت مدر ولا وبر إلا ودخله القرآن
محمود أباشيخ
Schaff,P. History of the Christian Church V2
Socrates Scholasticus’ Ecclesiastical History
Theodoret. The ecclesiastical history
White, E. The great controversy ended, Better living publication
إبن كثير، البداية والنهاية، دار إحياء التراث العربي 1988
حنا جرجس الخضري، تاريخ الفكر المسيح، دار الثقافة 2001
محمد بن الطيب الباقلاني، تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل، مؤسسة الكتب الثقافية - لبنان 1997،