الأخذ من أهل الكتاب والإقتباس من كتبهم
كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَلَاحِدَةِ مِنْ غَيْرِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّ أَكْبَرَ الشُّبُهَاتِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ حُسْبَانُهَا مُقْتَبَسَةً مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَمِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْمَذَاهِبِ، بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سَمِعَهَا مِنْ بَعْضِهِمْ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ بِالتِّجَارَةِ إِلَى الشَّامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ مَا خَالَفَ تِلْكَ الْكُتُبَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ خَطَأً سَبَبُهُ عَدَمُ جَوْدَةِ الْحِفْظِ أَوْ خَطَأً مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ تَعَمُّدًا مِنْهُمْ لِغِشِّهِ، كَمَا غَشَّ بَعْضُ الْيَهُودِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِسْلَامَ خِدَاعًا بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ بِأَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ أَدْخَلُوهَا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَكُتُبِ الْوَعْظِ وَالرَّقَائِقِ.
وَكَانَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى دَحْضِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تَلَقَّى كُلَّ هَذِهِ الْقِصَصِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي رِحْلَتِهِ إِلَى الشَّامِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ أَوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَا فِي رِحْلَتِهِ مَعَ مَيْسَرَةَ مَوْلَى خَدِيجَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – وَهُوَ وَإِنْ كَانَ
فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ شَابًّا لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ دُونَ مَيْسَرَةَ وَسَائِرِ تُجَّارِ قُرَيْشٍ لِدِرَاسَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، بَلْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا أَيَّامًا فِي بَلْدَةِ (بُصْرَى) بَاعُوا وَاشْتَرَوْا وَعَادُوا، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ فِيهَا أَخْبَارَ جَمِيعِ الرُّسُلِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، وَحَفِظَهَا مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ حِفْظًا، ثُمَّ لَخَّصَهَا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً تَقْرِيبًا فِي هَذِهِ السُّوَرِ، وَلَمْ يَجِدْ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَيْهِ شُبْهَةً فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا وُقُوفَهُ أَحْيَانًا عَلَى قَيْنٍ (حَدَّادٍ صَانِعٍ لِلسُّيُوفِ) رُومِيٍّ كَانَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُهُ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَفِيهِ نَزَلَ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (16: 103) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى
أَخْبَارِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ تَصْرِيحُ الْآيَاتِ بِأَنَّهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا قَصَّتْهُ السُّوَرُ مِنْهَا وَلَا قَوْمُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ خُصُومِهِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُكَذِّبَ أَوْ يُمَارِيَ فِي ذَلِكَ.
هَذَا وَإِنَّ مَا لَخَّصْنَاهُ هُنَا مِنْ حُكْمِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا يُثْبِتُ أَنَّهُ حُكْمٌ عَلِيٌّ نَزَلَ مِنْ فَوْقِ السَّمَاوَاتِ الْعُلَا، حُكْمُ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ الْمُهَيْمِنِ، وَأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ، وَتَحْقِيقَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ قَدْ أَثْبَتَ مَا أَثْبَتَهُ هَذَا الْحُكْمُ، وَقَدْ نَفَى مَا نَفَاهُ، أَلَيْسَ هَذَا أَنْصَعَ بُرْهَانٍ عَلَى كَوْنِهِ حُكْمَ اللهِ لَا حُكْمَ عَبْدِهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؟ بَلَى وَاللهِ، ثُمَّ بَلَى وَاللهِ، ثُمَّ بَلَى وَاللهِ، وَلَا يُمَارِي فِي ذَلِكَ إِلَّا مُتَعَصِّبٌ أَضَلَّهُ اللهُ.
وَمَنْ قَرَأَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ثُمَّ قَرَأَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ يَرَى أَمْرًا آخَرَ، يَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ بَيَّنَ صَفْوَةَ مَا فِيهِمَا مِنْ صِحَّةِ عَقِيدَةٍ، وَمِنْ أَدَبٍ وَفَضِيلَةٍ، وَمِنْ عِبْرَةٍ وَمَوْعِظَةٍ، وَمِنْ أُسْوَةٍ بِالْأَخْيَارِ حَسَنَةٍ، وَسَكَتَ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِمَا مِمَّا يُنَافِي ذَلِكَ وَيُخِلُّ بِهِ، أَوْ يَجْعَلُ أَفْضَلَ الْبَشَرِ قُدْوَةً سَيِّئَةً، وَصَرَّحَ بِنَقْضِ مَا طَرَأَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ نَزَعَاتِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ، فَإِنْ فَرَضْنَا – تَنَزُّلًا – أَنَّ هَذَا مِنْ صُنْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأُمِّيِّ، أَفَلَا يَكُونُ بُرْهَانًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ فِي شَخْصِهِ أَرْقَى مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ عِلْمًا وَعَقْلًا وَهِدَايَةً وَإِرْشَادًا؟ بَلَى، وَلَكِنْ كَيْفَ يُعْقَلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ مُرْسَلِينَ، وَمُوحًى إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ أَوْ مُلْهَمِينَ؟ الْحَقُّ أَنَّ نَفْيَ نُبُوَّتِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقْتَضِي نَفْيَ النُّبُوَّةِ وَإِبْطَالَ الرِّسَالَةِ مِنْ أَصْلِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُعْقَلُ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ثُبُوتُ غَيْرِهَا بِالتَّبَعِ لِثُبُوتِهَا، وَإِنَّنَا رَأَيْنَا بَعْضَ الْكَافِرِينَ بِالْوَحْيِ مِنَ الْبَاحِثَيْنِ الْمُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ يُفَضِّلُونَ مُحَمَّدًا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَمِنْهُمُ الدُّكْتُورُ شِبْلِي شُمَيْل السُّورِيُّ الْمَشْهُورُ، فَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ قَوْلًا وَكِتَابَةً وَأَثْبَتَهُ نَظْمًا وَنَثْرًا.