السورة تكشف عن الصراع الأصيل الدائم بين الجماعة المسلمة وعقيدتها ، وبين أهل الكتاب والمشركين وعقائدهم . . هذا الصراع الذي لم يفتر منذ ظهور الإسلام - وبخاصة منذ مقدمه إلى المدينة وقيام دولته فيها - والذي اشترك فيه المشركون واليهود اشتراكاً عنيفاً يسجله القرآن تسجيلاً رائعاً دقيقاً .
ولا عجب أن يشاركهم بعض رجال الكنيسة في أطراف الجزيرة العربية في صورة من الصور . ليس بعيداً عن الواقع أن يفد أفراد منهم أو جماعات لمناظرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجادلته في المواضع التي يظهر فيها الاختلاف بين عقائدهم المنحرفة والعقيدة الجديدة القائمة على التوحيد الخالص الناصع - وبخاصة فيما يتعلق بصفة عيسى عليه السلام .
وفي هذا الدرس منذ ابتدائه تحديد لمفرق الطريق بين عقيدة التوحيد الخالصة الناصعة والشبهات والانحرافات . وتهديد لمن يكفر بالفرقان وآيات الله فيه ، واعتبارهم كفاراً ولو كانوا من أهل الكتاب! وبيان لحال المؤمنين مع ربهم وموقفهم مما ينزل على رسله .
وهو بيان يحدد الموقف ويحسمه : فللإيمان علاماته التي لا تخطئ وللكفر علاماته التي لا شبهة فيها كذلك!
{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم . نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان . إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد . والله عزيز ذو انتقام } . .
{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، ما يذكر إلا أولو الألباب } .
{ شهد الله أنه لا إله إلا هو - والملائكة وأولو العلم - قائماً بالقسط . لا إله إلا هو العزيز الحكيم } . .
{ إن الدين عند الله الإسلام . وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم . بغياً بينهم . ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } . .
كما أن هذا الدرس يحمل تهديداً ، لا خفاء في أنه يتضمن تعريضاً باليهود . وذلك في قوله تعالى : { إن الذين يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم } . . فحين يذكر قتل الأنبياء يتجه الذهن مباشرة إلى اليهود!
وكذلك النهي الوارد في قوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . . } إلخ . فالغالب أن المقصود به هم اليهود . وإن كان من الجائز أن يشمل المشركين أيضاً . فحتى هذا التاريخ كان بعض المسلمين لا يزالون يوالون أقاربهم من المشركين كما يوالون اليهود ، فنهوا عن ذلك كله وحذروا هذا التحذير العنيف . سواء كان الأولياء من اليهود أو من المشركين . فكلهم سماهم { الكافرين } !
وظاهر أن قوله تعالى : { قل للذين كفروا : ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين . . . } إلخ . تتضمن الإشارة إلى أحداث غزوة بدر ، وأن الخطاب فيها موجه إلى اليهود . وقد وردت في هذا رواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : « لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً يوم بدر ، وقدم المدينة وجمع اليهود ، وقال : أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشاً ، قالوا : يا محمد : لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش أغماراً لا يعرفون القتال . إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا . فأنزل الله تعالى في ذلك : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم . . - إلى قوله : - { فئة تقاتل في سبيل الله - أي ببدر - وأخرى كافرة } »
من تفسير في ظلال القرآن لسيد قطب - سورة آل عمران