لغز روح القدس فى نصّ يوحنا ( 14 : 26 ) ..!!
إنَّ مِن أكبر الأخطاء التى وقع فيها الأوائل هى قيامهم بترجمة معانى الأسماء إلى اللغة اليونانية وعدم ذكر الأسماء الآرامية كما هى . وبالتالى فقد فقدَ الأحفاد من بعدهم حقيقة الأسماء فى اللغة الأم الأصلية ألا وهى الآرامية . فالأسماء تظل كما هى بين اللغات حتى يعرف الناس عمن يتكلمون ويكتبون .
وأكبر مثال على ذلك اسم الله . فقد نقلوه إلى اليونانية ثيوس ، ومِن ثمَّ فلن يجد القارىء الآن اسم الله فى الأناجيل اليونانية أو ترجماتها إلى سائر اللغات . مع أنَّ تلاميذ المسيح عليه السلام لا يعرفون ثيوس هذا ولا يتعبَّدون له . وقل مثله أيضا حول اسم المسيح عليه السلام حيث كتب فى اليونانية بثلاث صيغ حسب موقعه الإعرابى فى الجملة ( إيسوس ، إيسون ، إيسو ) ، ومن اليونانية ترجم إلى سائر اللغات بأشكال مختلفة ليس مِن بينها الاسم الآرامى الصحيح للمسيح عليه السلام ألا وهو عيسى الآرامى (1) ..!!
وهناك أمر آخر وهو تدَخُّل النسَّاخ للأناجيل اليونانية بشرح معانى بعض الأسماء والكلمات الآرامية بين سطور الأناجيل وليس فى الهامش مما أوقع القرَّاء فى خطأ الاعتقاد أنَّ ذلك الشرح مِن أصل النصوص . وسأضرب بعض الأمثلة على ذلك الأمر :
ففى إنجيل يوحنا ( 1 : 42 ) نجد قول أندراوس لأخيه : " قد وجدنا مِسِّـيِّا ( Μεσσιαν ) . الذى تفسيره كرستوس ( Χριστος ) " .
فالقارىء هنا لا بد وأن يعلم أنَّ كلمة مِسِّـيِّا ليست يونانية بدليل ترجمة معناها للقارىء اليونانى إلى كرستوس ، وبالتالى فإنَّ كرستوس ليست آرامية . فإن أردنا أن نُرجعَ النصّ إلى أصله الآرامى أو العربى فسيكون هكذا " قد وجدنا
مِسِّـيِّا . الذى تفسيره مسيح " .
وهنا نلاحظ أنَّ لدينا كلمتين آراميتين مُختلفتين مِسِّـيِّا و مسيح ، وهما قطعا ليستا سواء . فلكل منهما جذر لغوى مختلف (2) . ولكن ذلك التفسير الذى وقع فى متن النصّ أوقع علماء المسيحية فى الشرق والغرب فى الخطأ الفادح القائل بأنَّ الكلمتان معناهما واحدا . والسبب هو جهل الناسخ اليونانى للإنجيل بمعنى كلمة مِسِّـيِّا فى الآرامية . ثم بخطئه حين ترجم الاسم الآرامى مسيح إلى أسم آخر يونانى هو كرستوس .
المثال الثانى هو ما جاء فى إنجيل متى ( 1 : 23 ) " ويدعون اسمه عِمَّانوئيل ( Εμμανουηλ ) الذى تفسيره ثيوس ( θεος ) معنا " وهنا أيضا نلاحظ أنَّ الاسم الأول عِمَّانوئيل قد كتب فى اليونانية بمنطوقه الآرامى ولكن عندما شرح الناسخ معنى الاسم فى اليونانية غيَّر الاسم الآرامى إيل إلى ثيوس اليونانى وهما ليسا شيئا واحدا . فإن أرجعنا النصّ إلى الآرامية أو العربية فسيكون هكذا : " ويدعون اسمه عِمَّانوئيل الذى تفسيره إيل معنا " .
ومِن ثمَّ فقد وقع أيضا العلماء فى خطأ فادح هو القول بأنَّ ثيوس هو الله حين كتبوا اسم الجلالة الله بدلا عن اسم الاله اليونانى ثيوس فى النصّ العربى . والسبب هو جهل الناسخ اليونانى للإنجيل حين ترجم الاسم الآرامى إيل إلى الاسم اليونانى ثيوس .
وهنا فى بحثنا حول البارقليط سنجد إنجيل يوحنا ( 14 : 26 ) يقول :
البارقليط ( παρακλητος ) وهو الروح القدس ( το πνευμα το αγιον )
فعبارة وهو الروح القدس تدَخُّل تفسيرى مِن الناسخ للنصّ كما حدث فى المثالين السابقين تماما وإلى القارىء البيان والتوضيح :
كلمة بينوما ( πνευμα ) اليونانية معناها نفس بفتح الفاء وليس بتسكينها . ويكتبونها روح تسهيلا على القرَّاء العرب ، وكلمة أجون ( αγιον ) معناها طاهر أو صَفِىّ أو تقِىّ ، وهم يترجمونها فى العربية قدُس ، وأداة التعريف هى تو ( το ) .
هناك فرق بين العبارتين ( روح القدس ) و ( الروح القدس ) . فالعبارة الأولى تكتب فى الأصل اليونانى ( του αγιον πνευματος ) بتعريف كلمة قدس وتنكير كلمة روح ، كما ورد فى نصّ متى ( 28 : 19 ) " وعَمِّدُوهم باسم الآب والابن و روح القدس ( του αγιον πνευματος ) " . وللأسف الشديد فإنَّ الترجمات العربية قالت الروح القدس خلافا للأصل اليونانى ..!!
فالأقنوم الثالث يقال له روح القدس وليس الروح القدس إن ابتغينا الدِّقة فى الترجمة وصِحَّتها . و روح القدس هنا ليس بشرا سويا .
وهناك روح قدس ( πνευμα αγιον ) بتنكير الكلمتين . وهذا التعبير ورد فى إنجيل متى ( 1 : 18 ) " أمَّا ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا : لمَّا كانت مريم أمُّهُ مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا ، وُجِدَت حُبْلى من روح قدس ( πνευμα αγιον ) " .
وورد فى لوقا ( 1 : 35 ) " فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا . فأجاب الملاك وقال لها روح قدس ( πνευμα αγιον ) يُحِلُّ عليك وقوَّة العلىّ تظللك ... " .
وفى إنجيل يوحنا ( 20 : 22 ) " ولمَّا قال ـ المسيح ـ هذا نفخ وقال لهم اقبلوا روح قدس ( πνευμα αγιον ) " .
ويلاحظ أنَّ المُشار إليه بـ روح قدس هنا ليس بشرا سويا أيضا . وللأسف الشديد فإنَّ الترجمات العربية قالت الروح القدس فى الأماكن الثلاثة خلافا للأصل اليونانى ..!!
ويلاحظ أيضا أنَّ هذا الـ روح قدس شىء غير مادىّ خرج بالنفخ مِن فم المسيح عليه السلام . وقد عَبَّرَ القرآن الكريم عن حمل المسيح فى بطن أمّه مريم عليهما السلام بأنه قد تمَّ بواسطة النفخ أيضا ، ولكن عن طريق جبريل عليه السلام الذى يُطلق عليه القرآن لقب روح القدس ..!!
وهناك تعبير الروح القدس (το πνευμα το αγιον ) موضوع بحثنا . وهذا التعبير يحتاج إلى شرح . فمن المعترف به أنَّ أداة التعريف فى اليونانية والإنجليزية لا توضع قبل الاسم والصفة على التوالى ، وإنما يُكتفى بأداة تعريف واحدة .
فنقول مثلا ( the holy land ) ولا نقول ( the holy the land ) أى الأرض المقدسة . ونقول ( the beautiful girl ) ولا نقول ( the beautiful the girl ) أى الفتاة الجميلة . ونقول ( the holy spirit ) ولا نقول ( the holy the spirit ) أى الروح الطاهرة أو المقدَّسة .
ولكن نصّ يوحنا فى أصله اليونانى مكتوب فيه أداة التعريف مرتين خلاف المتفق عليه بين العلماء . وهذا الشكل الكتابى يمكن أن يأخذ أحد الاحتمالين ليستقيم فى معناه :
فالاحتمال الأول إمَّا أن تكون هناك نقطة أو فاصلة بعد كلمة روح هكذا (το πνευμα , το αγιον ) أى يقرأ نصّ يوحنا فى العربية هكذا " البارقليط الروح ، القدس " وتصبح كلمة القدس معطوفة على البارقليط الروح . مع ملاحظة أنَّ كلمة قدُس ( αγιον ) معناها الطاهر أو الصَّفِىّ أو النقِىّ أو التقِىّ أو الذى نذر نفسه لخدمة الله والدين . وقد سبق أن عرفنا من كلام يوحنا أنَّ الروح هنا معناها النبىّ . فيكون معنى النصّ هو البارقليط النبىّ ، الطاهر . وحيث أنَّ المصطلح بارقليط معناه كما سبق هو رسول فتكون الترجمة الأصَحّ للنصّ هى " الرسول النبىّ ، الطاهر " .
والاحتمال الثانى هو إضافة كلمة القدُس ( το αγιον ) إلى النصّ من أحد النسَّاخ . ويشهد على ذلك الاحتمال النسخة السينائية ( MSS ) للعهد الجديد التى تم العثور عليها فى دير سانت كاترين سنة ( 1812مـ ) . حيث وُجِدَ النصّ فيها بدون ذكر كلمة القدس " البارقليط الروح " أى " الرسول النبىّ " . ونجد مثل ذلك فى النسخة السريانية ( the palimpsest version ) بدون ذكر كلمة القدس . والروح هنا هو الروح الحق المذكور فى نصّ ( 15 : 26 ) . أى بدون تدخل تفسيرى من ناسخ الإنجيل .
كما يلاحظ أنَّ " روح الحق " و " روح الضلال " المذكوران فى رسالة يوحنا الأولى ( 4 : 6 ) هما على التوالى نبىّ الحق و نبىّ الضلال . فالبارقليط إنسان وليس شبحا ( Ghost ) كما ورد فى نسخة الملك جيمس المعتمدة ..!! وقد سبق ذكر صفاته الشخصية والفعلية التى لا تنطبق بأى حال من الأحوال على الأشباح والأرواح التى لا تُسمع ولا تُرَى ..!!
وعموما فإنَّ المقصود مِن كلمة الروح فى كتابات العهد الجديد ينحصر فى عدة أشكال منها :
.. روح يُقصد بها شخص إنسانى مُذكر ، وتأتى صفة للأنبياء وهى على نوعين إمَّا روح حق وإمَّا روح ضلال ( 1 يوحنا 4 : 6 ) . ومنها البارقليط الذى وُصِف بأنه الروح الحق ( يوحنا 14 : 17 ) .
.. روح يُقصد بها شخص ملك مِن الملائكة ، وتأتى صفة لبعض ملائكة الله مثل جبريل عليه السلام ( متى 1 : 18 ؛ لوقا 1 : 35 ) . ويشار إليه فى الأناجيل والقرآن بأنه روح قدس و روح القدس على التوالى .
.. روح لا يقصد منها شخصا بعينه ، وإنما هى إلهام وتأييد قلبى يُبَثّ عن طريق نفخة مِن فم المسيح عليه السلام . كما جاء فى يوحنا ( 20 : 21 ـ 22 ) : " فقال لهم يسوع أيضا سلام لكم . كما أرسلنى الآب أرسلكم أنا . ولمَّا قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس ( روح قدس πνευμα αγιον ) " . فالروح هنا هو ما حواه نَفَسُ المسيح المُباشر الخارج مِن فمه ، وليس بشخص على الاطلاق .
.. روح قالوا عنه هو الأقنوم الثالث وهو أيضا ليس بشخص لا بشرىّ ولا ملائكىّ ، لا مُذكَّر ولا مؤنث ولكنه متعادل الجنس ( neutral ) . قالوا عنه بأنه قوَّة الآب وفعله العامل . جاء فى إنجيل متى ( 28 : 19 ) " اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعُمِّدُوهم باسم الآب والابن والروح القدس ( وفى الأصل روح القدس του αγιον πνευματος ) " .
ولن أخوض أكثر من ذلك فى تتبع الصيغ المختلفة المكونة مِن الكلمتين روح وقدس مثل ( روح قدس ، الروح قدس ، روح القدس ، الروح القدس ) ومراعاة التذكير والتأنيث والعاقل وغير العاقل ومِن ثمَّ معرفة معانيها المختلفة فكلها واردة فى نصوص أصول الأناجيل اليونانية ولها معان مُختلفة . وهذا الأمر لا يتطابق مع الترجمات العربية المعاصرة ويتباين مع نصوصها حيث قالت الروح القدس على جميع الصِّوَر ..!!
هل البارقليط هو الأقنوم الثالث ..!!؟
إنَّ الخلاف الرئيسى بين المسلمين والمسيحيين يعود فى أصله إلى عدم إعتراف المسيحيين بنبوَّة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم . والاعتراف وعدم الاعتراف به صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى نصوص صحيحة أو غير صحيحة بقدر ما يرجع إلى التقليد المحض لتراث الآباء والأجداد وهذا للأسف عيب شديد وخلل معيب فى حرية الفكر وحرية الانسان .
كما أنَّ أكثر علماء المسلمين يقولون بأنَّ البارقليط هو أحمد اسم نبىّ الإسلام تفسيرا منهم لقول القرآن فى سورة الصَّف " وإذ قال عيسى ابن مريم يا بنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مُصدِّقا لما بين يدىَّ من التوراة ومُبَشِّرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد " . ولم يذكر القرآن كلمة بارقليط حتى نزعم أنها تعنى أحمد .
والمسيحيون ينكرون بشدة أن تكون كلمة بارقليط معناها أحمد ، وهم لا يعلمون أصل هذه الكلمة ومعناها فى لغة المسيح عليه السلام . وزعموا - رغم جهلهم بمعناها - أنها الأقنوم الثالث من الثالوث المعبود .
فدخل الطرفان معترك الحوار وعقولهم مشحونة بتقاليد الآباء والأجداد . وبالتالى فإنهم لن يتقبلوا أى رأى آخر وإن كان صحيحا من الطرف الآخر يخالف ما هم عليه من تقاليد بالية . فهل نستطيع أن ندرس القضية بموضوعية وحيادية علمية ..!!؟
لقد علمنا مما سبق أصل وفصل المصطلح بارقليط الآرامى . وعلمنا أنه اسم جنس وليس باسم علم لشخص مُعَيَّن . وأنه بمعنى رسول من رسل الله . وعلمنا من نصوص إنجيل يوحنا أنه يشير إلى شخص يشابه المسيح عليه السلام فى الجنس والنوع أى رجلا من البشر ، وليس بروح ليس لها جسم يُرَى . وبشىء من الفكر الحُرّ نبحث سويا عن الإجابة المُدَعَّمة بالدليل للسؤال الأزلى : هل البارقليط هو الروح القدس الأقنوم الثالث ..!!؟
المُحاولة الأولى :
قال المسيح عليه السلام فى نصّ يوحنا ( 16 : 7 ) " لكنى أقول لكم الحق : إنه خيرٌ لكم أن أنطلق ، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم البارقليط " . واضح جدا من النصّ أنَّ البارقليط لن يأتى ما لم يذهب المسيح من هذه الدنيا . ولندع تفسير كلمة البارقليط جانبا حتى لا تختلط علينا الأمور .
فالبارقليط والمسيح شخصان لن يجتمعا فى وقت واحد أو عصر واحد . ثم نتناقش الآن مع القائلين بأنَّ البارقليط هو الروح القدس الأقنوم الثالث :
هناك نصوص إنجيلية كثيرة تشير إلى تواجد الروح القدس بين الناس قبل ولادة المسيح ، وبعد ولادة المسيح ، وأثناء بعثة المسيح ، وفى الفترة الواقعة بين حادثة الصلب وقبل الصعود إلى السماء . وسأذكر بعض هذه النصوص مباشرة من النسخة العربية المعتمدة ، وبدون الرجوع إلى الأصل اليونانى لتصحيح ترجمة العبارة " الروح القدس " .
ـ فقبل ولادة المسيح عليه السلام :
كان الروح القدس مع يوحنا بن زكريا وهو فى بطن أمه ( لوقا 1 : 15 ) . وكان أيضا مع زكريا ( لوقا 1 : 67 ) . وكان مع الياصابات ( لوقا 1 : 41 ) . وكان مع مريم ( متى 1 : 18، 20 ؛ لوقا 1 : 35 ) .
ـ وبعد ولادة المسيح عليه السلام : كان الروح القدس مع سِمْعان ( لوقا 2 : 26 ) .
ـ وأثناء بعثة المسيح عليه السلام : كان أيضا مع المسيح ( لوقا 3 : 22 ؛ 4 : 1 ) .
ـ وفى الفترة الواقعة بين حادثة الصلب وقبل الصعود إلى السماء : كان مع المسيح والتلاميذ ( يوحنا 20 : 22 ) .
هذا هو حال الروح القدس ، كان متواجدا مع المسيح والناس . وبغض النظر أيضا عن معنى عبارة روح القدس . ولم يكن شخصا ذو لحم ودم يراه الناس ويكلمهم ويكلمونه ، ولا ينطبق عليه قول المسيح : " لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به " ، ولم يسمعه أحد يتكلم ..!! فهذا " الروح القدس " لا يمكن أن يكون البارقليط . إنه شىء آخر . ومن قال بغير ذلك فليراجع نفسه مائة مرة وليكشف عن حالة عقله .
المُحاولة الثانية :
جاء فى نصّ يوحنا ( 20 : 22 ) " فقال لهم يسوع أيضا سلام لكم ، كما أرسلنى الآب أرسلكم أنا . ولمَّا قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس " . وهنا نجد أنَّ الروح القدس عبارة عن الهواء المنفوخ خارج فم المسيح عليه السلام ، إنه البركة المُهداة مِن المسيح لتلاميذه وتأييده لهم . وليس بشخص آخر مُشابه للمسيح . إنه هنا شىء غير ملموس . فهذا " الروح القدس " ليس هو البارقليط الآتى من بعد المسيح . والقائل بغير ذلك فيجب عليه أن يسارع بنزع الخشبة الملعونة مِن على عينه حتى يرى الحق جيدا كما قال المسيح عليه السلام.
المُحاولة الثالثة :
إنَّ قول المسيح فى نصّ إنجيل لوقا ( 11 : 13 ) " فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تُعطوا أولادكم عطايا جَيَّدة ، فكم بالحرى الآب الذى مِن السماء يُعطى الروح القدس للذين يسألونه " يُشير إلى أنَّ الروح القدس هنا عبارة عن هِبَة الله للناس . والمقابلة بين عطايا الوالدين لأولادهم وعطية الله للناس تنفى تماما القول بأنَّ الروح القدس عبارة عن شخص مُعيَّن .
وأعتقد يقينا بأنَّ قول المسيح السابق ليس معناه أنَّ الإله الآب سوف يُعطى الناس إلها هو الروح القدس ..!! وهل يعى المسيحيون ذلك المعنى جيدا . أنَّ عطية الإله العلىّ الآب للناس هى الإله العلىّ نفسه ( الروح القدس ) لأنَّ الثلاثة واحد ..!!
ولى هنا ملاحظة على الهامش وهى أنَّ الروح القدس هنا قد كتبها لوقا نكرة أى روح قدس (πνευμα αγιον ) ، فهى ليست بإله أو حتى شخص طاهر . وإنما هى روح طاهرة مجهولة ربما تشير إلى الإلهام والتأييد الإلهى للمؤمنين . وهذه الروح متعادلة الجنس ( neutral ) فلا هى مذكر ولا هى مؤنث . وبالتالى لا يمكن أن تكون هى البارقليط المذكَّر الجنس .
المُحاولة الرابعة :
المُعَزِّى ( נתח ) فى العهد القديم : إنَّ أشهر الأسماء العربية للبارقليط اليوحناوى هو المُعَزِّى ، فبه جاءت الترجمة العربية فانديك المعتمدة . فكان مِن الواجب علىَّ أن أبيِّن للقرَّاء أصل كلمة المُعَزِّى فى العبرية واليونانية حسب ورودها فى نصوص العهد القديم .
لقد وردت كلمة مُعَزِّى فى جميع الترجمات العربية للعهد القديم فى سفر المراثى ( 1 : 2 ، 9 ، 16 ، 17 ، 21 ، .... الخ ) . وأصلها العبرى هو كلمة ناحيم ( נתח ) التى تحمل الرقم ( 5162 ) وهى بمعنى القائم بالتعزية أى المُعَزِّى .
وهى فى النسخة السبعينية اليونانية مكتوبة باراكاليو ( παρακαλεω ) أى نفس الكلمة اليونانية التى أتوا بها مِن عندياتهم ثم ترجموها فى نصّ يوحنا إلى المُعَزِّى والمُؤيد والمساعد والشفيع . ولم تكتب باركليت ( παρακλητ ) المنطوق اليونانى للبارقليط .
وهذا دليل آخر على أنَّ كلمة بارقليط ليست يونانية ..!!
ووردت فى معظم أسفار العهد القديم ولكنهم كتبوها بصيغ فعلية مثل عَزَّى ويُعَزِّى وساعد ويُساعد و ... الخ . فلا داعى للخوض فيها ويكفينا الاسم المُعَزِّى رغم أنَّ الكلمة واحدة ..!!
وهذا معناه أنَّ المُعَزِّى كان موجودا بين الناس مِن قبل ميلاد المسيح عليه السلام بشهادة أسفار العهد القديم ، ولم يتعرَّف علية اليهود وكتبة الأسفار اليهودية وليس هو بـ الروح القدس الذى زعموه فى أسفار العهد الجديد . وبالتالى فإنَّ المُعَزِّى ليس هو البارقليط الآتى من بعد المسيح عليه السلام .
بدايات للفهم ..!!
هناك بدايات للفهم بدأت تلوح فى كتابات علماء المسيحية عن البارقليط والروح القدس الأقنوم الثالث . وظهرت اشارات اعتراضية نقدية تقول بأنَّ البارقليط شخصية مُحدَّدَة تختلف عن الروح القدس . ولكنها كتابات قليلة كليلة يمنعها إعراضها عن الاعتراف بنبىّ الإسلام عليه السلام من السير قُدُما فى الاتجاه الصحيح .
فعلى سبيل المثال نجد الدكتور القس فهيم عزيز يقول عن البارقليط :
" وهذه الكلمة تختلف عن كلمة الروح القدس فى أنَّ هذه الأخيرة تأتى فى صيغة المحايد اليونانى ، أى الذى لا هو مُذكر ولا هو مؤنث ( neuter ) . أمَّا اللفظ بارقليط فإنه يأتى فى المُذكر ، وهذا يعنى أنه شخصية مُحدَّدة " (3) .
قلت جمال : وتلك بداية جيدة فى طريق الفهم الصحيح ، ولكن للأسف الشديد يتوقف الكلام عن المُضىّ فى معرفة النتيجة المتوقعة من تلك البداية .
كما صَرَّحَ مؤلفو دائرة معارف زندرفان الكتابية الأمريكية بأنَّ هناك لغز حقيقى فى مجال عمل البارقليط كما ورد فى إنجيل يوحنا ، حيث لا يتطابق مع فكرة المُعزِّى أو المُحامى . وإليك النصّ الإنجليزى :
“ The puzzling fact is that the describtion of paraclete’s work as delineated in John’s gospel does not fit well with the idiea of the Advocate “ (4)
وتلك أيضا بداية ولكن لا تكتمل . لأنَّ تكملتها تقتضى الكشف عن شخصية البارقليط الآتى من بعد المسيح ، الرجل النبىّ الذى يسمع عن الله ثم يُخبر الناس بما سمع ، يقول الحق كله ، ويكشف عن الأمور التى لم يتمكن المسيح من الكشف عنها .
ولا وجود فى التاريخ المدوَّن عن مثل تلك الشخصية سوى شخصية نبىّ الإسلام أحمد عليه السلام .
من كتاب نبي أرض الجنوب
ع . م / جمال الدين شرقاوى
الهامش
(1) .. راجع كتابى معالم أساسية لتتعرف بالتفصيل على اسم الله والمسيح فى الأناجيل اليونانية وأصلهما الآرامى .
(2) .. سوف يأتى الشرح التفصيلى لذلك الأمر فى مبحث المِسِّـيَّا .
(3) .. الروح القدس للدكتور القس فهيم عزيز ص 87 .
(4) .. The zondervan Pictorial Encyclopedia of the Bible v 4 p 597
القسم الأول من هذا المقال آرامية البارقليط
القسم الثاني من المقال مَن هو البارقليط فى أقوال المسيح