الأقباط ظنوا ـ كالمسلمين ـ أن " نابليون" يقود هجوما صليبيا جديدا على مصر.
فلما هرعوا لاستقباله لم يكترث لهم! فما حاجته إليهم؟ وما حاجتهم إليه؟ وقد اغتاظ المسلمون من احتفاء الأقباط بالقائد الفاتح، ونشبت فى بعض القرى ثورات قتل فيها نفر من الأقباط.
فوعد "نابليون " أن يعاقب ـ بشدة ـ القرى التى ارتكبت هذه الجرائم.
على أن " نابليون " لم ير فى مسلك الكثرة المسلمة مع القلة النصرانية ما ينطوى على حيف أو تعصب أو اضطهاد من النوع الذى عرفه فى " أوروبا ".
بل على العكس لاحظ عند تنظيمة للإدارة والاقتصاد والميزانية أن الأقباط كانوا يستغلون الحكام المسلمين، ويختلسون أموالا جسيمة.
فقررإقصاءهم من وظائفهم بالتدرج على ما شرحناه قبلا.
ومع ذلك فقد ظل الأقباط متعلقين بالفرنسيين، راغبين فى التعاون العسكرى معهم ـ مع عزوف نابليون عن قبول هذا العون ـ حتى تولى "كليبر" القيادة بعد نابليون فأذن للأقباط أن يؤلفوا فرقتهم العسكرية لتنضم إلى الجيش الفرنسى المجيد!!.
ولنتتبع موقف مواطنينا الأقباط من الوثائق نفسها التى ذكرها الكاتب الصليبى (جاك تاجز لنزيه) !، قال فى ص 216: " لما وصلت العمارة الفرنسية إلى مياه الإسكندرية ظل الفرنسيون ـ الأجانب ـ والأقباط موضع شك السلطات وتعرضوا من جراء ذلك إلى أعمال السوء ".
وهذا كذب بالنسبة للأقباط خاصة.
نعم إن "مراد بك " هم بإيذاء الأقباط، متوقعا أن ينضموا إلى الجيش الغازى غير أن مشيريه رفضوا ذلك رفضا باتا.
وينقل " نقولا ترك " فى هذا الشأن ما يلى: " قال الوزير، وشيخ البلد " إبراهيم بك ": غير ممكن أن نسلم فى هذا العزم والرأى، لأن هؤلاء ـ يعنى الأقباط ـ رعية مولانا السلطان صاحب العز والنصر والشأن.
وكان الوزير وشيخ البلد يرسلون إليهم كل يوم "سليم أغا"مستحفظان أغات الانكشارية "كذا فى الأصل " يطمئنهم على محلاتهم وأرواحهم وأموالهم ويطلق المناداة فى البلد كله على حفظ الرعايا وعدم التعرض لهم ".
وقال الكاتب فى ص 217: " الملاحظ أن "بونابرت " أرسل فى طلب المعلم أجرجس الجوهرى" ـ المباشر العام للشثون المالية ـ فجاء المعلم، وقدم إلى الجنرال الفرنسى أعيان الأقباط.
ومن الطبيعى أن ينتهز الأقباط هذه الفرصة ليقدموا الطاعة والخضوع للرجل الذى جلس على أنقاض المماليك " كذا " ورسخت أقدامه فى أنحاء البلاد.
وكان أعضاء الوفد يرتدون الكساوى ذات الأكمام المذهبة المزدانة بالوريدات الذهبية، وعلى رءوسهم العمائم الكشمير، وأعربوا " لبونابرت " عن خالص ولائهم..".
قال الكاتب فى ص 218: "...
وقلق المسلمون لعمل الأقباط، مما دعا " الجبرتى " إلى اتهامهم صراحة بالتعاون مع الفرنسيين ".
ونحن نعجب لهذا الوفد المختال فى ملابسه المزركشة!.
أهو ذاهب إلى حفل عرس؟ أكان مسلك المسلمين معهم يتطلب إظهار هذا الفرح كله فى استقبال الفاتح المنتصر، وتشييع الدولة الإسلامية المدبرة؟؟.
أيًا ما كان الأمر، فإن عناصر المقاومة بين المسلمين ظلت تواصل جهادها المقدس لإرهاق المحتل وتعكير صفوه.
وبرغم الخسائر المتلاحقة التى أنزلها الفرنسيون بالجيوش المنظمة ثم بجموع الثوار المكافحة، فإن المسلمين قرروا ألا يستسلموا.
لقد ثاروا على " نابليون " فقمع ثورتهم.
وها هو ذا "نابليون " تضطره أحوال فرنسا أن يغادر مصر مستخلفا " كليبر " وظن المكافحون أنهم يستطيعون مقاتلة القائد الجديد فأعلنوا عليه الثورة، إلا أنه ما لبث أن هزمهم، فاضطروا إلى طلب الأمان.
ويقول الكاتب فى ص 218: " لما طلب ثوار القاهرة الأمان لم ير " كليبر " مانعا من منحهم إياه، ولكنه أثقل كاهل البلاد بالضرائب بعد ذلك.
"ثم أرسل فى طلب العلماء والأعيان وألقى فيهم خطبة ملأها بالتهديد والوعيد، ووصفهم بالرجال الأشرار الجاحدين، وأخبرهم بفرض ضريبة استثنائية على جميع السكان، ما عدا نصارى الذميين ".
وذلك بداهة، لأن النصارى الذميين حلفاء الاحتلال الفرنسي.
فلماذا تفرض عليهم ضريبة؟ فى هذه الظروف ألف الأقباط فرقتهم العسكرية لمعاونة الفرنسيين.
وقد اهتاج المسلمون لهذه الخيانة السافرة.
ويدل وصف "الجبرتى " لأفرادها على غيظ دفين وغل مكين قال: " إن " يعقوب القبطى " لما تظاهر مع الفرنساوية، وجعلوه سارى عسكر القبط، جمع شباب القبط وحلق لحاهم، وزياهم بزى مشابه لعسكر الفرنساوية، مميزين عنهم بقبع يلبسونه على رءوسهم مشابه لشكل البرنيطة، وعليها قطعة فرو سوداء من جلد الغنم فى غاية البشاعة! مع ما يضاف إليها من قبح صورهم، وسواد أجسادهم وزفارة أبدانهم " وبلغ أفراد الفرقة ثمانمائة.
وقد أنعم الفرنسيون على قائدها المدعو " يعقوب " بلقب" جنرال "!!.
و " يعقوب " هذا كان يشتغل مع المماليك، ونال من نعمائهم ما جعله صاحب ثروة ضخمة، أكسبته بين المصريين منزلة حسنة.
فلما دخل الفرنسيون مصر، ومالأهم قومه اشتغل هو الآخر لحسابهم.
يقول الكاتب فى ص 222: "..
ولما قدمه " جرجس الجوهرى " إلى الجنرال " بوسييلنج " كتب الجنرال إلى بونابرت "يقول له: " قال لى " الجوهرى".
إنك لن تجد إنسانا أكثر غيرة منه على مصالحنا، وانه يضع رأسه بين يديك راجيا أن تأمر بقطعه، إن بدا من المعلم " يعقوب " أدنى خيانة... "!.
أرأيت هذا التفانى المطلق فى خدمة المحتل؟ ويستطرد الكاتب فى الكلام عن المعلم " يعقوب ": "...
ألقى دواته المعلقة بزنارة واستل سيفه من غمده، وخاض غمار معارك طاحنة وعرض نفسه للهلاك أكثر من مائة مرة! هذا لأنه يعتبرنفسه جنديا من جنود بونابرت " ص 223.
ضد من خاض هذه المعارك؟ ضد المسلمين الثائرين على الاحتلال الفرنسى..
وفى الصفحة نفسها يقول الكاتب: "..
ولما سافر "ديزيه " إلى فرنسا مع " بونابرت " استقر " يعقوب " بالقاهرة حيث كان يحيط الفرنسيين بمعلومات مفيد ة.
فلما حوصر فى ثورة القاهرة الثانية برهن على مهارته فى الفنون الحربية.
الشئ الذى جعله يطلب إلى "كليبر" السماح له بتجنيد فرقة من الأقباط يتولى قيادتها..
" وقد رحل هذا اليعقوب الخائن فى أعقاب الحملة الفاشلة إلى فرنسا.
حيث لقى حتفه فى عرض البحر ذاهبا إلى الجحيم.
وقيل: إنه صرح قبل وفاته لربان السفينة التى فر عليها بأنه كان يبغى بسيرته السالفة تحقيق استقلال مصر (!).
وقد روج الكاتب الصليبى لهذا الهذر، يحسب أنه يرفع به خسيسة خائن قذر إنه ـ فعلا ـ كان يريد قطع صلة مصر بتركيا ليلحقها بفرنسا!!.
وهو ومن شايعوه إنما تحمسوا لهذه النذالة من غليان أحقادهم على الإسلام ومقتهم العنيف لأمته ودولته، مهما أسدى إليهم من أياد وأغدق عليهم من نعم.
إنها النزعة الصليبية الخبيثة هى التى جعلت هذا المخلوق يجحد مواساة المسلمين له وبرهم به.
وهى التى جعلت "سلامة موسى" يكتب عدة مقالات فى جريدة مصر القبطية يمجد فيها أعمال الجنرال " يعقوب " .
أجل، يمجد هذه الأعمال، التى سردناها لك من فم كاثوليكى متعصب شديد البغضاء للإسلام.
فإذا هى جملة سفالات تنطق بأن فاعلها ماتت فى دمه نوازع الشرف كلها.
إن الكاتب الصليبى يستشعر الوجل من هذه التصرفات التى ارتكبها الأقباط على عهد ألاحتلال الفرنسى.
وهو ـ لكى يبررها ـ يريد إيهامنا بأن الأقباط وقع عليهم اضطهاد سابق فلا يستغرب منهم أن يثأروا لأنفسهم.
وقد أخفق فى ذكر حادثة واحدة تشهد بأن المسلمين آذوا الأقباط إيمانا واحتسابا كما فعل النصارى بعضهم مع البعض الآخر فى أوروبا نفسها.
ولا أدل على ذلك من أن الفرنسيين دخلوا مصر، ودخلوا أسبانيا فى أيام متقاربة.
فماذا وجدوا فى مصر المسلمة، وماذا وجدوا فى أسبانيا الكاثوليكية؟ إننا نتحف الكاتب الكاثوليكى بهذا التقرير ليرى أنه فى الوقت الذى كان المسلمون يسندون الوظائف العالية لمخالفيهم فى الدين، كان قومه يخترعون المهلكات لمخالفيهم فى الدين.
وفى الوقت الذى داس الفرنسيون فيه الجامع الأزهر وفيه علماء يصفون الأقباط بأنهم أهل ذمة، " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " كان الفرنسيون يدخلون كنائس أسبانيا باحثين عن وسائل التعذيب التى أعدها القساوسة الرحماء للتنكيل بالعزل المستضعفين ممن اتهموا بعداوة المسيح..
و إليك ما كتبه "الكولونيل ليمونسكى " أحد ضباط الحملة الفرنسية فى أسبانيا قال: " كنت سنة 1809 ملحقا بالجيش الفرنسى الذى يقاتل فى أسبانيا، وكانت فرقتى بين فرق الجيش الذى احتل "مدريد" ـ العاصمة ـ .
وكان الإمبراطور نابليون أصدر مرسوما سنة 1808 بإلغاء دواوين التفتيش فى المملكة الأسبانية.
غير أن هذا الأمر أهمل العمل به للحالة الحربية، والاضطرابات السياسية التى سادت وقتئذ.
وصمم رهبان "الجزويت " ـ أصحاب الديوان الملغى ـ على قتل وتعذيب كل فرنسى يقع فى أيديهم، انتقاما من القرار الصادر، وإلقاء للرعب فى قلوب الفرنسيين حتى يضطروا إلى إخلاء البلاد فيخلو لهم الجو.
وبينما أسير فى إحدى الليالى، اجتاز شارعا يقل المرور فيه من شوارع مدريد إذ باثنين مسلحين قد هجما على يبغيان قتلى، فدافعت عن حياتى دفاعا شديدا، ولم ينجنى من فتكهما إلا قدوم سرية من جيشنا مكلفة بالتطواف فى المدينة.
وهى كوكبة من الفرسان تحمل المصابيح وتبيت الليل ساهرة على حفظ النظام.
فما ان شاهدها القاتلان حتى لاذا بالهرب، وتبين لنا من ملابسهما أنهما من جنود ديوان التفتيش.
فأسرعت إلى " المريشال سولت " الحاكم العسكرى لمدريد، وقصصت علية النبأ فثار غضبه، وقال: لا شك بأن من يقتل من جنودنا كل ليلة إنما هو من صنع أولئك الأشرار، ولابد من معاقبتهم وتنفيذ حكم الإمبراطور بحل ديوانهم.
والآن خذ معك ألف جندى وأربعة مدافع، وهاجم دير الديوان، واقبض على هؤلاء الرهبان الأبالسة، ولنقتص منهم بمحاكمتهم أمام مجلس عسكرى.
وفى الرابعة صباحا ركبت على رأس تلك الحملة، ثم قصدنا إلى دير الديوان، وهو على مسافة خمسة أميال من " مدريد ".
فلم يشعر الرهبان إلا والجنود يحيطون بديرهم، والمدافع تصوب إليه فوهاتها.
وكان هذا الدير عبارة عن بناء ضخم أشبه بقلعة حصينة، وأسواره العالية تحرسها فرقة من الجنود اليسوعيين.
فتقدمت إلى باب الدير وخاطبت الحارس الواقف على السور وأمرته ـ باسم الإمبراطور ـ أن يفتح الباب.
وظهر لى أن الحارس التفت نحو الداخل وكلم أشخاصا لا نراهم.
ولما انتهى من حديثه عاد وأخذ بندقيته وأطلق علينا الرصاص ثم انهال علينا الرصاص من كل جهة، فقتل بعض رجالى وجرح آخرون.
ولكنى أمرت جنودى أن يقتحموا الدير عنوة، واعتبرت إطلاق الرصاص من الجزويت علامة رفض، وأنهم لا يفتحون الباب إلا بالقوة.
وأخذنا نطلق المدافع على أسوار الدير، وعلى الباب الموصد.
واستخدم جنودنا ألواح الخشب السميك تقيهم رصاص الحرس الذى كان ينهمر علينا كالمطر الغزير.
وبعد نصف ساعة استطعنا فتح ثغرة واسعة فى الحائط، نفذ الجيش منها إلى داخل الدير، وكنت مع بعض زملائى طليعة الداخلين.
وأسرع الرهبان اليسوعيون إلى لقائنا مرحبين بنا! ووجوههم باشة!.
وهم يستفهمون عن سبب قدومنا على هذا النحو، وكأن لم يدر بيننا قتال ولم تنشب معركة.
ثم استداروا إلى جنودهم وانهالوا عليهم تعنيفا وتأنيبا وقالوا: إن الفرنسيين أصدقاؤنا فمرحبا بهم.
على أن هذا النفاق الخبيث لم ينطل علينا فأصدرت الأمر لجنودى بالقبض على أولئك القساوسة جميعا وعلى جنودهم الحراس، توطئة لتقديمهم إلى مجلس عسكرى.
ثم أخذنا نبحث عن قاعات العذاب المشهورة، وطفنا بغرف الدير فراعنا ما بها من أثاث فاخر، ورياش وكراسى هزازة! وسجاجيد فارسية ثمينة، وصور نادرة ومكاتب كبيرة.
وقد صنعت أرض هذه الغرفة من خشب المغنى المصقول المدهون بالشمع.
وكان شذى العطور يعبق فى أرجاء الغرف فتبدو الساحة كلها أشبه بأبهاء القصور الفخمة التى لا يسكنها إلا ملوك قصروا حياتهم على الترف واللهو.
وعلمنا بعد أن تلك الروائح المعطرة تنبعث من شمع يوقد دائما أمام صور الرهبان، ويظهرأن هذا الشمع قد خلط به ماء الورد.
وكادت جهودنا تذهب سدى ونحن نحاول العثور على قاعات التعذيب.
إننا فحصنا غرف الدير وممراته وأقبيته كلها ولم نجد شيئا يدل عليها.
فعزمنا على الخروج يائسين من اكتشاف بغيتنا مقتنعين بتقديم أولئك الرهبان إلى المجلس العسكرى.
وكانوا فى أثناء بحثنا يقسمون ويؤكدون أن ماشاع عنهم وعن ديرهم ليس إلا تهما باطلة، وأنهم يحتملون هذه الأكاذيب فى سبيل الله.
وأنشأ زعيمهم يؤكد لنا براءته وبراءة أتباعه بصوت خافت وهو خاشع الرأس توشك عيناه أن تطفر بالدمع، فأعطيت الأوامر للجنود بالاستعداد لمغادرة الدير.
لكن " اللفتنانت دى ليل " استمهلنى قائلا:" أيسمح لى الكولونيل أن أخبره بأن مهمتنا لم تنته حتى الآن ؟ قلت له: قد فتشنا الدير كله ولم نكتشف شيئا مريبا به ففيم ترغب؟.
قال: إني أرغب فى فحص أرضية هذه الغرف، وأدقق فى امتحانها، فإن قلبى يحدثنى بأن السر تحتها.
وعند ذلك نظر الرهبان بعضهم إلى بعض نظرات قلقة، وأذنت للضابط بالبحث.
فأمر الجنود برفع الأبسطة، فرفعت، ثم أمر بأن يصبوا الماء بكثرة فى أرض كل غرفة على حدة ففعلوا.
وكنا نرقب الماء، فإذا بالأرض تبتلعه فى إحدى الغرف، ويتسرب إلى أسفل.
فصفق الضابط "دى ليل " من شدة فرحه وقال: هو ذا الباب! انظروا فنظرنا فإذا بالباب قد انكشف، وهو قطعة من أرض الغرفة يفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت إلى جوارها رجل مكتب الرئيس.
وأخذ الجنود يكسرون الباب المسحور بقحوف البنادق.
والتفت فرقة من الجنود حول عصابة الرهبان الذين اصفرت وجوههم وكستها غبرة.
وفتح الباب وظهر لنا سلم يؤدى إلى باطن الأرض.
فأسرعت إلى شمعة كبيرة يزيد طولها على متر كانت تضئ أمام صورة أحد رؤساء محاكم التفتيش السابقين.
ولما هممت بالنزول وضع راهب يسوعى يده على كتفى متلطفا وقال لى: يابنى، لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثة بدم القتال لأنها شمعة مقدسة.
فقلت له: يا هذا إنه لا يليق بيدى أن تتنجس بلمس شمعتكم الملطخة بدم الأبرياء، وسنرى من النجس فينا؟ ومن القاتل السفاك؟.
وهبطت على درج السلم يتبعنى سائر الضباط والجنود شاهرين سيوفهم حتى وصلنا إلى آخر الدرج!.
فإذا بنا فى غرفة كبيرة مربعة، هى عندهم قاعة المحكمة، فى وسطها عمود من الرخام، به حلقة حديدية ضخمة، ربطت بها سلاسل، كانت الفرائس تقيد بها رهن المحاكمة.
وأمام ذلك العمود عرش" الدينونة"، كما يسمونه وإلى جانبيه مقاعد أخرى أقل ارتفاعا معدة لجلوس جماعة القضاة.
ثم توجهنا إلى غرف آلات التعذيب، وتمزيق الأجسام البشرية.
وقد امتدت تلك الغرف مسافات كبيرة تحت الأرض.
وقد رأيت بها ما يستفز نفسى، ويدعونى إلى التقزز ما حييت.
رأينا غرفا صغيرة فى حجم جسم الإنسان بعضها عمودى وبعضها أفقى.
فيبقى سجين العمودية واقفا بها على رجليه مدة سجنه حتى يقضى عليه.
ويبقى سجين الأفقية ممددا بها حتى يموت.
وتبقى الجثة فى السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم.
ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من الأجداث البالية تفتح كوة صغيرة إلى الخارج.
وقد عثرنا على عدة هياكل بشرية مازالت فى أغلالها سجينة.
والسجناء كانوا رجالا ونساء تختلف أعمارهم بين الرابعة عشرة والسبعين.
واستطعنا فكاك بعض السجناء الأحياء، وتحطيم أغلالهم، وهم على آخر رمق من الحياة.
وكان فيهم من جُن لكثرة ما لاقى من عذاب، وكان السجناء عرايا زيادة فى النكاية بهم، حتى اضطر جنودنا أن يخلعوا أرديتهم، ويستروا بها لفيفا من النساء السجينات.
وقدمنا السجناء إلى النور تدريجيا لئلا يؤثر النور المفاجئ على أبصارهم.
وكانوا يبكون فرحا وهم يقبلون أيدى الجنود وأرجلهم الذين أنقذوهم من العذاب، وأعادوهم إلى الحياة.
وانتقلنا إلى غرف أخرى فرأينا هناك ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم.
وكانوا يبدأون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين، وذلك كله على سبيل التدريج حتى تأتى الآلة على البدن المهشم، فيخرج من الجانب الأخر كتلة واحدة.
وعثرنا على صندوق فى حجم رأس الإنسان تماما، يوضع فيه الرأس المعذب، بعد أن يربط صاحبه بالسلاسل فى يديه ورجليه فلا يقوى على حركة.
وتقطر على رأسه من ثقب فى أعلى الصندوق نقط الماء البارد، فتقع على رأسه بانتظام فى كل دقيقة نقطة.
وقد جن الكثيرون من ذلك اللون من العذاب، قبل أن يحملوا به على الاعتراف ويبقى المعذب على حاله تلك حتى يموت.
وعثرنا على آلة ثالثة للتعذيب تسمى بالسيدة الجميلة، وهى عبارة عن تابوت تنام فيه صورة فتاة جميلة مصنوعة على هيئة الاستعداد لعناق من ينام معها، وقد برزت من جوانبها عدة سكاكين حادة.
وكانوا يطرحون الشاب المعذب فوق هذه الصورة، ثم يطبقون عليهما باب التابوت بسكاكينه وخناجره، فإذا أغلق مزق جسم الشاب وتقطع إربا إربا.
كما عثرنا على جملة آلات لسل اللسان، ولتمزيق أثداء النساء وسحبها من الصدور بواسطة كلاليب فظيعة، ومجالد من الحديد الشائك لضرب المعذبين وهم عرايا حتى يتناثر اللحم عن العظام.
وصل خبر الهجوم على دير " ديوان التفتيش " إلى مدريد، فهب الألوف ليروا ما حدث.
وخيل ـ إلينا من شدة الزحام ـ أننا فى يوم القيامة.
ولما شاهد الناس بأعينهم وسائل التعذيب وآلاته الجهنمية جن جنونهم، وانطلقوا ـ كمن به مس ـ فأمسكوا برئيس اليسوعيين، ووضعوه فى آلة تكسير العظام فدقت عظامه دقا وسحقتها سحقا.
وأمسكوا كاتم سره وزفوه إلى السيدة الجميلة وأطبقوا عليهما الأبواب، فمزقته السكاكين شر ممزق.
ثم أخرجوا الجثتين، وفعلوا بسائر العصابة وبقية الرهبان كذلك.
ولم تمض نصف ساعة حتى قضى الشعب على حياة ثلاثة عشر راهبا، ثم أخذ ينهب ما بالدير.
وقد عثرنا على أسماء ألوف الأغنياء فى سجلات الديوان السرية، وهم الذين قضى الرهبان بقتلهم كى يبتزوا أموالهم، أو يضطروهم إلى كتابة إقرارات تحول ثرواتهم إلى اليسوعيين.
ويمكننى أن أقول: بأن ذلك اليوم هو أعظم يوم شهدته بعد هدم " الباستيل ".
أ.هـ.
***
هذه حلقة اكتشفت من سلسلة يمتد طرفها مع الماضى السحيق، تشهد بمأساة التاريخ الكنسى من أهوال وأنكال.
وبهذه الوسائل أصبحت " الكاثوليكية " هى الدين الوحيد فى أسبانيا.
وعندما ساق " نابليون، جيوشه إلى أسبانيا هذه، ووجد من المضطهدين بها من يستبشر بمقدمه، لم يكن هناك محل للاتهام بالخيانة أو الجحود.
أما فى مصر حيث يعيش الأقباط فى أكناف كثرة تحنو عليهم، وترى المحافظة على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ذمة تسأل أمام الله عن الوفاء بها.
أما فى مصر حيث لا حرج على يهودى أو نصرانى أن يعبد ربه على طريقته، ويتردد ما شاء على كنيسته، فما معنى الانضمام إلى الجيوش الغازية وتكوين الفرق لمعا ونتها؟.
إن الكاتب الكاثوليكى لا يستحيى ـ وهو يعرف تاريخ كنيسته ـ من أن يزعم أن " نابليون " لما جاء مصر منح الأقباط حريتهم الدينية "كذا".
إى وربي كذلك يزعم الأفاك!! فماذا صنع للأقباط " نابليون "؟.
وجدهم فى وظائف الدولة الإسلامية يغتالون مالها فأمر بفصلهم.
وكان المسلمون ـ لفرط ثقتهم ـ لا يشعرون بذلك.
وجد الكنائس فوق الحاجة فما شاد كنيسة جديدة.
فلما أحس بأنهم ينضمون إليه بطرا وتعصبا لما يتوهمون فيه من تمسك بالنصرانية قبض يده عنهم، حتى إذا تحرجت حالته وأحوال خلفائه قبل منهم العون.
وما كان الفرنسيون ـ وهم الغرباء المحصورون ـ يزهدون فى خيانة الخائنين.
ذلك..
وقد اشترط الفرنسيون عند رحيلهم من مصر ألا يؤذى من ساعدهم مدة احتلالهم لها.
ولكن الشعب ـ كما يقول الكاتب فى ص 225 ـ: " أرهق الفرنسيين فى أثناء انسحابهم! ثم وجه غضبه إلى النصارى!
وهكذا لم تفلح الإجراءات التى اتخذها رجال الشرطة ولا تصريحات الوالى فى التخفيف من نار الانتقام المتأججة فى قلوب الشعب إلا بعد مضى وقت طويل ".
لا..
إن الشعب المسلم نسى بعد وقت قصير.
لأنه ـ بطبيعته اللينة ـ يقبل الكثير، ويعفو عن الخطير.
ونحن نؤكد أن القلة القبطية التى فعلت ذلك مع المسلمين، لو كانت قلة مسلمة مع النصارى فى إنجلترا أو فرنسا أو إيطاليا، ثم ارتكبت هذه الخيانة لأبيدت عن بكرة أبيها.
بل إن هذه القلة المسلمة كانت ستباد ولو لم تقترف إثما، وحسبها من إثم أنها مسلمة.
أليس ذلك ما كان فى سالف الأزمان؟
الشيخ محمد الغزالي
الرجوع الي مقالات الشيخ محمد الغزالي - الرد على النصارى