من اقوال الشيخ محمد عبده
تحدَّث الإمام محمد عبده عن أصول النصرانية ، وهل تتَّسع للعلم أو تضيق به؟ مُحتكما إلى مصادر النصرانية وأقوال رجالها، فذكر ستة أصول: الخوارق، السلطة الكهنوتية، ترك الدنيا، الإيمان بغير المعقول، الكتب المقدسة تحتوي علوم الدين والدنيا معا، التفريق بين المسيحين وغيرهم حتى الأقربين.
(أول أصل قام عليه الدين المسيحي، وأقوى عماد له هو: خوارق العادات. تقرأ الأناجيل فلا تجد للمسيح عليه السلام دليلا على صدقه إلا ما كان يصنع من الخوارق، وعددها في الإناجيل يطول شرحه. ثم إنه جعل ذلك دليلا على صحَّة الدين لمَن يأتي بعده، فجعل لأصحابه ذلك كما تراه في الإصحاح العاشر من إنجيل متَّى وغيره، إذا تتبعت جميع ما قال الأولون من أهل هذا الدين تجد خوارق العادات من أظهر الآيات، على صحة الاعتقادات، ولا يخفى أن خارق العادة هو الأمر الذي يصدر مخالفا لشرائع الكون ونواميسه، فإذا ساغ أن يكون ذلك لكل من علا كعبه في الدين لم يبق عند صاحب الدين ناموس يُعرف له حكم مخصوص.
زاد الإنجيل على هذا أن الإيمان ولو كان مثل حبة خردل كاف في خرق نواميس الكون، كما قال في الإصحاح السابع عشر من متَّى (10): (فالحق أقول لكم: لو كان لكم إيمان مثل حبَّة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل: انتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيء غير مُمكن لديكم)، وفي الحادي عشر من مُرقص (23): (لأني الحق أقول لكم: إن مَن قال لهذا الجبل: انتقل وانطرح في البحر. ولا يشكُّ في قلبه، بل يؤمن أن ما يقوله يكون، فمهما قال يكون له (24) لذلك أقول لكم: كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم).
فكل بحث يُؤدِّي إلى أن للكون شرائع ثابتة وأن للعلل أو الشرائط أو الأسباب أو الموانع أحكاما في معلولاتها أو ما شرطت فيه أو ما تسبَّب عنها، أو ما استحال وجوده لوجودها كان مُضادًّا لهذا الأصل في أي زمن. وقد كان كل علم من علوم الأكوان لا بدَّ فيه من هذا البحث، فكل علم مُضادٌّ لهذا الأصل، ثم إن صاحب الاعتقاد بهذا الأصل لا يحتاج إلى البحث في الأسباب والمُسببات، لأن اعتقاده في الشيء أن يكون وإرادته لأن يكون كافيان في حصوله، فهو في غنى عن العلم، والعلم عدو لما يعتقد. فما أصعب احتماله إذا جاء يزاحمه في سلطانه.
الأصل الرابع للنصرانية: سلطة الرؤساء الدينيين:
وبعد هذا الأصل أصل آخر، وهو: السلطة الدينية التي مُنحت للرؤساء على المرءوسين في عقائدهم، وما تُكنُّه ضمائرهم. وقد أحكم هذه السلطة ما ورد (16:19) من إنجيل متَّى: (أُعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه في الأرض يكون مربوطا في السموات، وكل ما تحلُّه على الأرض يكون محلولا في السموات)، وفي (18:18) منه: (الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء، وكل ما تحلُّونه على الأرض يكون محلولا في السماء).
فإذا قال الرئيس الكهنوتي لشخص: إنه ليس بمسيحي صار كذلك. وإذا قال: إنه مسيحي فاز بها. فليس المُعتقد حُرًّا في اعتقاده، يتصرَّف في معارفه كما يُرشد عقله، بل عينا قلبه مشدودة بشفتي رئيسه. فإذا اهتزت نفسه إلى بحث وقفها القابض على تلك السلطة. وهذا الأصل إن نازع فيه بعض النصارى اليوم، فقد جرت عليه النصرانية خمسة عشر قرنا طوالا)[1] اهـ.
أثر الأصول المسيحية في الحياة العلمية والفكرية:
ولم يكتفِ الإمام محمد عبده ببيان الأصول النظرية لكل من الدينين: الإسلام والنصرانية، بل ذكر ما أنتجته هذه الأصول في الواقع التاريخي، مُستشهدا بالوقائع الثابتة والمعروفة من تاريخ الديانتين، وتاريخ الأُمتين: الإسلامية والمسيحية، وخصوصا تاريخ أوربة، التي بلغت اليوم من الرُّقي العلمي ما بلغت، ويحاول بعضهم أن ينسب هذا إلى المسيحية.
هذا وكل الدارسين المُحققين يعلمون: أن المسيحية وتعاليمها المثالية في واد، والحضارة الأوربية أو الغربية في واد آخر، وشتَّان ما بينهما.
ولهذا قلت في بعض ما كتبت: إنها ليست حضارة المسيح ابن مريم، وإنما هي حضارة المسيح الدجال.
وأحيل القارئ الكريم إلى (الملاحق) في آخر الكتاب، ليقرأ عن (مقاومة النصرانية للعلم في التاريخ[2].
---------------------------------------------------
[1]- الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية صـ22، 23.
[2]- انظر: ملحق 7 مقاومة النصرانية للعلم .
الرد علي بابا الفاتيكان
الرجوع الي ردود يوسف القرضاوي على شبهات النصارى