الفقرة الأولى : بدأ فيها المسيح عليه السلام بقوله " إن كنتم تحبونى حافظوا على وصاياى " وهذا يدل على شيئين : أولهما الترغيب فى تنفيذ وصاياه والعمل بها . وثانيهما الاعلام بأنَّ هناك من سيمتنع عن المحافظة على وصايا المسيح عليه السلام . فحين جعل المحبة فى أول كلامه يفهم القارىء بداهة أنَّ هناك احتمالا لعدم قبول البعض للبارقليط الذى سيأتى من بعده والذى بشر به . لذا حاول المسيح تحريك العواطف حتى يدفع ذلك البعض إلى القبول . وهذا أسلوب نبوى لتهيـئة النفوس بذلك الشكل العاطفى من أجل البارقليط القادم ولإزالة الشكوك والإنكارات المتوقعة عن طريق البيان لكسب القلوب والأرواح .
وبناء على هذه الملاحظة فإنَّ قسما منصفا سيتقرب وينجذب إلى البارقليط القادم والقسم الآخر سيبتعد عنه.
الفقرة الثانية : قوله عليه السلام " وسوف أتوَسَّل ( ερωτησω ) للآب " وهنا أتوقف قليلا أمام الكلمة اليونانية ( ερωτησω ) التى تم ترجمتها فى النسخ العربية إلى كلمة أطلب وأسأل . وهى فى الحقيقة بمعنى التضرع والتوسل عن طريق توجيه الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى . وهذا المعنى لا يكون أبدا بين طرفين متساويين وإنما بين عبد وإله ، بين خالق ومخلوق .
جاء فى قواميسهم المتخصصة (1) أنَّ الكلمة اليونانية ( ερωτησω ) المذكورة فى ذلك النصّ تستخدم دائما بين المخلوقين الأقل شأنا ومنزلة ( inferior ) ، وبين الخالق سبحانه وتعالى الأعلى شأنا ومنزلة ( superior ) ولكنهم تجاهلوا ذلك المعنى هنا . لأنَّ الطالب هو يسوع والمطلوب منه هو الآب وهما فى إعتقادهم بدرجة واحدة . ولذلك تجدهم يقولون هنا بأنَّ الآب المذكور فى النصّ ليس هو الإله الواحد الكلى ، ولكنه الآب الأقنوم الأول ..!!
الفقرة الثالثة : " وهو سوف يعطيكم بارقليطا (παρακλητον ) آخرا ( αλλον ) يبقى معكم إلى الأبد " . فذا يحتاج إلى القليل من سعة الصدر والفكر ونبذ التقاليد البالية التى حملناها من آبائنا وأجدادنا دون تثبت ، أو حتى عرضها على صحيح المنقول وصريح المعقول ..!! ولننزع الخشبة اللعينة من أعيننا حتى نبصر جيدا كما قال المسيح عليه السلام فى إنجيل متى ( 7 : 5 ) .
لقد علمنا مما سبق أنَّ كلمة بارقليط تدل على اسم جنس أو نوع . واسم الجنس مثل قولنا رجل من الرجال ، وعالم من العلماء ، ووجيه من الوجهاء . ونبيل من النبلاء ونبىّ من الأنبياء و ... إلى غير ذلك من مسميات . فالكلمات رجل وعالم ووجيه ونبيل ونبىّ هى أسماء جنس ، وليست بأسماء أعلام .
فقول المسيح عليه السلام " بارقليطا آخرا " معناه أنَّ هناك بارقليط أول وثان وثالث أى سلسلة من البارقليطات حسب صحة صيغة الجمع من هذه الكلمة . ويعتبر المسيح عليه السلام هنا أحدهم كما قال يوحنا فى رسالته الأولى " لنا بارقليط عند الآب يسوع المسيح البار " ( 2 : 1 ) .
وأمَّا إتيانه عليه السلام بكلمة آخر والتى عَبَّرَ عنها يوحنا بكلمة ( αλλον ) فإنها تفيد المثل والمشابه من نفس النوع والجنس . ولم يذكر كلمة هتروس ( ετερος ) التى تفيد المثل ولكن من نوع وجنس مختلف (2) .
فعلمنا من ذلك أنَّ البارقليط الآخر الآتى من بعد المسيح عليه السلام يشابه تماما جنس ونوع المسيح عليه السلام . فهو رجل ذو لحم وعظم ، يراه الناس بأعينهم ويكلمهم ويكلموه . وله دعوة دينية ينشرها بين الناس . فإن كان المسيح البارقليط عليه السلام نبيَّا ورسولا فإنَّ البارقليط الآخر سيكون نبيَّا ورسولا أيضا مثله سبقه أنبياء ورُسُل كثيرون . وإن كان المسيح البارقليط إلها فإنَّ البارقليط الآخر سيكون إلها أيضا قد سبقته آلهة أخرى كثيرة .
فالبارقليط الأول يشابه البارقليط الثانى والثالث والرابع و .. و .. إلى البارقليط الآخر أو الأخير . إنها سلسلة من البارقليطات أرسلها الله تعالى إلى البشر . هذا هو الذى تدل عليه معانى الكلمات اليونانية ولم أتدخل فى لىّ أعناق معانيها ، فهل عقلناها تماما ..!!؟
وهكذا تطابق النصّ الإنجيلى مع التأصيل اللغوى لكلمة بارقليط الذى سبق بيانه من أنها تدل على اسم جنس أو نوع وليست باسم علم شخصى كما يزعمون . فـ لله الحمد والشكر على ما أنعم وأفاض .
وأمَّا قوله عليه السلام " يبقى معكم إلى الأبد " ففيه دليل قوى على أنَّ هذا البارقليط الآخر سيكون آخر سلسلة البارقليطات . أى سيكون خاتم البارقليطات ولكن كيف سيبقى إلى الأبد مع أن كل نفس ذائقة الموت ..!؟ الإجابة ستكون بعد حين بإذن الله تعالى .
والآن وبعد أن انتهينا من شرح الخطوط الرئيسية فى نصّ يوحنا ( 14 : 15 ـ 16 ) فلنحاول أن نستكمل مَعًا صفات هذا البارقليط الأخير الآتى مِن بعد المسيح عليه السلام وذلك فى الصفحات التالية
أولا : الصفات الشخصيَّة للبارقليط
جاء فى يوحنا ( 16 : 12 ـ 14 ) قول المسيح عليه السلام عن البارقليط الآتى بعده :
نسخة فانديك المعتمدة ط 1977
|
نسخة كتاب الحياة ط 1988
|
إنَّ لى أمورا أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن . وأمَّا متى جاء ذاك روح الحق فهو يُرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويُخبركم بأمور آتية . ذاك يُمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم .
|
ما زال عندى أمورا كثيرة أقولها لكم ولكنكم الآن تعجزون عن احتمالها . ولكن عندما يأتيكم روح الحق يُرشدكم إلى الحق كله ، لأنه لا يقول شيئا من عنده ، بل يُخبركم بما يسمعه ويُطلعكم على ما سوف يحدث . وهو سيمجدنى لأن كلَّ ما سيحدثكم به صادر عَنِّى .
|
نسخة الكاثوليك ط 1993
|
نسخة الآباء اليسوعين ط 1991
|
عندى كلام كثير أقوله لكم بعد ، ولكنكم لا تقدرون الآن أن تحتملوه . فمتى جاء روح الحق أرشدكم إلى الحق كله ، لأنه لا يتكلم بشىء من عِنده ، بل يتكلم بما يسمع ويُخبركم بما سيحدث ، سيُمجدنى لأنه يأخذ كلامى ويقوله لكم .
|
لا يزال عندى أشياء كثيرة أقولها لكم ولكنكم لا تطيقون الآن حملها . فمتى جاء هُوَ أى روح الحق أرشدكم إلى الحق كله لأنه لن يتكلم من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بما سيحدث ، سيمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم به .
|
وهنا نجد أنَّ المسيح عليه السلام قد أطلق عليه لقب الروح الحق وفى الأصل اليونانى ( το πνευμα της αληθειας ) . وقد تكرر هذا التعبير الروح الحق على لسان المسيح عليه السلام ثلاث مرات صِفة منه للبارقليط الآتى بعده وذلك فى المواضع الآتية من إنجيل يوحنا ( 14 : 17 ؛ 15 : 26 ؛ 16 : 13 ) ولم يرد ذكر التعبيرين الروح الحق و البارقليط فى الأناجيل الثلاثة الأخرى . فهذا مما انفرد بتسجيله يوحنا فقط .
وبالتالى فإنه لم يوصف أى شخص آخر بذلك الوصف الفريد فى كل كتب العهد الجديد . والغريب فى الأمر أنَّ المسيح عليه السلام لم يُوصَف بأنه روح الله أو حتى روح من الله فى الأناجيل . ولكنه وُصِفَ بذلك الوصف فى القرآن الكريم والسُّنة المطهرة . ليكون شبيها بنبىّ الإسلام الروح الحق عليه السلام .
وأمَّا عن قوله " لا يتكلم بشىء من عِنده ، بل يتكلم بما يسمع " فيه مُشابهة تامة بالنبىّ المُبشَّرُ به فى سفر التثنية ( 18 : 18 ) القائل " سوف أضع كلامى فى فمه فينقل إليهم جميع ما أكلمه به " وبالذى قاله القرآن الكريم عن نبىّ الاسلام صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى ) ( 3 / النجم ) .
وبالرجوع إلى الأصول اليونانية للنصّ نجد أنَّ الكلمتان المعبرتان عن صفتى السمع والكلام هما على التوالى ( أكوس ακουση ) و( لاليسى λαλησει ) ومعناهما فى اليونانية : يستقبل الصوت ويرسل الصوت على التوالى . وهاتان الصفتان استخدمتا كثيرا فى الأناجيل ، ووُصِف بهما المسيح عليه السلام يستقبل الصوت ويصدر الصوت بمعنى يسمع ويتكلم .
فالبارقليط الآتى يشابه المسيح ، فهما مُستقبلان لأوامر الله وكلامه ، ثم هما أيضا مُبلغان للناس بما سمعا من الله سبحانه وتعالى . قال المسيح عليه السلام مناجيا ربَّه حسب إنجيل يوحنا ( 17 : 8 , 14 ) : " الكلام الذى أعطيتنى قد أعطيتهم " و " أنا قد أعطيتهم كلامك " .
فالبارقليط عيسى ابن مريم عليه السلام مُبَلغٌ عن الله ، فيسمع أولا ثم يكلم الناس بما سَمِعَ ثانيا . والبارقليط الآخر المبشر به مُبَلغٌ أيضا عن الله ، لا يقول كلاما من عِند نفسه وما ينطق عن الهوى وإنما يُبلغهم بما سَمِع وأمِرَ بإبلاغه إلى الناس . وتلك هى صفات النبىّ صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى فى القرآن الكريم (يأيها النبىّ بَلِّغ ما أنزل إليك من ربك ). فوسيلة اتصال البارقليط بالناس مادية بحتة سمع وكلام ، وهما وسيلتان معرفيتان ماديتان خلاف الإلهام الذى ينسب إلى الروح القدس .
وهنا عرفنا شيئا من معنى المصطلح بارقليط ، إنه يشابه معنى النبىّ المُبَلغ عن الله . ولك أن تقول مُطمئنا إنه بمعنى رسول بين الله وخلقه .
ونرجع ثانية إلى عبارة ( الروح الحق ) لنتعرف على المعنى المقصود من كلمة روح من أقوال يوحنا صاحب هذه العبارة . قال يوحنا فى رسالته الأولى ( 4 : 1 ) : " أيها الأحِبَّاء لا تصَدِّقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هى من الله ، لأنَّ أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم " .
نلاحظ هنا أنَّ يوحنا قد فسَّر كلمة روح ( πνευμα ) بأنها تعنى بالضبط كلمة نبىّ . وأنَّ صيغة الجمع منها ( πνευματι ) الواردة فى النصّ تعادل كلمة الأنبياء .
فعبارة يوحنا الروح الحق معناها النبىّ الحق . حسب أقوال يوحنا وبدون تدخل خارجى منى أو من غيرى لقسر المعنى العقدى المراد . ويكون معنى المصطلح اليوحناوى بارقليط حسب أقوال قائله هو النبىّ الحق أو الرسول الحق .
ولا يزال هذا البحث يستقرىء النصوص لإزالة الغموض المقصود وغير المقصود من على ذلك المصطلح اليوحناوى الذى زعموا أنه كلمة يونانية ثم اختلفوا فى معناها .
وقبل أن ننتقل إلى الصفات الفعلية أحِبُّ أن أذكِّرَ القرَّاء الكرام بأنَّ هذا البارقليط الآتى سيكون رجلا مثل المسيح تماما وهذا المعنى مستقى من كلمة آخر اليونانية ( αλλον ) ومن سياق النصوص التى تكلمت عن البارقليط . حيث نجد فيها الضمائر تشير إليه فى جميع الترجمات الإنجليزية بالضمير هُوَ ( He ) الذى يقال للعاقل المُذكَّر خلاف الضمير الذى يشار به إلى الروح بالضمير ( it ) الذى يقال لغير العاقل ..!!
إضافة إلى أنَّ الروح القدس عندهم متعادل الجنس ( neutral ) أى ليس بذكر ولا أنثى وبذلك تنتفى المشابهة بين الروح القدس والمسيح عليه وسلم.
ثانيا : الصفات الفِعْليَّة للبارقليط
وهى أهم الأشياء التى يقوم البارقليط الآتى من بعد المسيح عليه وسلم بتنفيذها وهى تنحصر فى الآتى :
1 .. يُعَلِّمَ كل شىء يتصل بالله والدين ( يوحنا 14 : 26 ) .
2 .. يُذَكِّرَ الناس بكل الذى قاله المسيح عليه وسلم فى أثناء بعثته ( يوحنا 14 : 26 ) .
3 .. يشهد للمسيح عليه وسلم ( يوحنا 15 : 26 ) .
4 .. يُبَكِّت العالم على الخطيئة وعلى البر وعلى الدينونة ( يوحنا 16 : 8 ) .
5 .. يُرشد الناس إلى الحق كله ( يوحنا 16 : 13 ) .
6 .. يُخبرُ عن أمور غيبية سوف تحدث فى المستقبل ( يوحنا 16 : 13 ) .
7 .. سيُمَجِّد المسيح عليه وسلم بالقول الصادق ( يوحنا 16 : 14 ) .
8 .. يبقى مع الناس إلى الأبد ( يوحنا 14 : 16 ) .
وسوف أتكلم عن هذه النقاط الثمانية كما وردت فى الأصول اليونانية ومقابلها فى النصوص الإسلامية ليميز القرَّاء بين الحق والباطل .
1 .. يُعَلِّمَ كل شىء يتصل بالله والدين :
يفيدنا نصّ يوحنا ( 16 : 12 ) أنَّ هناك أشياء أخرى كثيرة جدا كان المسيح يريد أن يقولها لتلاميذه ولكنه لم يفعل ، لأنهم لم يكونوا مؤهلين فى ذلك الوقت لتقبلها أو احتمالها . وهذه الأمور الدينية التى لم يُخبر بها المسيح سيقولها النبىّ الحق عند قدومه وقد عبَّرت النسخ (LB , TEV , NIV , PME ) عن تلك الأشياء بقولها : ( I have much more to tell you ) . وقالت النسخة الأمريكية القياسية ( I have many more things to say to you ) .
وهذه الأشياء الكثيرة جدا التى لم يُخبر بها المسيح عليه وسلم فيها دلالة صريحة على عدم إكتمال رسالة المسيح عليه وسلم . وفيها أيضا اشارة إلى أنَّ رسالة النبىّ الحق سوف تكون المتممة ، بإذاعته وإعلانه للحق الكامل .
جاء فى نسخة البيبل الأورشليمى ما نصّه :
“ But when the Spirit of truth comes , he will lead you to the complete truth “ .
وترجمته : ولكن عندما يأتى الروح الحق فهو يُرشدكم إلى الحق الكامل .
والآن وبعد مرور أكثر من ألفى سنة على رسالة المسيح ، مَن الذى جاء بالحق كله وأذاعه بين الناس ..!؟ لا يعرف التاريخ أحدا قد جاء بالحق الإلهى الكامل من بعد بعثة المسيح عليه وسلم غير نبىّ الإسلام صلى الله عليه وسلم.
أمَّا عن قولهم أنَّ روح الحق هذا هو الروح القدس الاقنوم الثالث فهو كلام لا يستقيم مع المنطق والواقع . فبأى لغة أخبر الروح القدس الناس بالأشياء التى لم يُخبر بها المسيح ..!؟
ومتى كان ذلك ..!!؟
وما هى هذه الأمور التى أخبر بها ..!!؟
لا شىء يُعرف عن ذلك الأمر . فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام وعبادة الأوثان والعرافة أو الكهانة وأحكام الطلاق وأمور أخرى كثيرة لم يُخبر بها المسيح ولم يسمع التاريخ عن إخبار الروح القدس بها إلى الآن .
ولكن روح الحق نبىّ الإسلام صلى الله عليه وسلم عندما جاء منذ أكثر من أربعة عشر قرنا أعلن أحكام الله فى هذه القضايا وأمور أخرى كثيرة بيَّنها وفصَّلها وعَمِلَ بها المسلمون . وتم إكمال دين الله وإتمام نعمه على البشر جميعا ببعثته صلى الله عليه وسلم . قال تعالى فى قرآنه الكريم ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا ).
2 .. يُذَكِّرَ الناس بكل ما قاله المسيح عليه وسلم ( يوحنا 14 : 26 ) :
من أسماء القرآن الكريم الذكر ( 9 / الحجر ؛ 51 ، 52 / القلم ) . وقد أوحى ذلك الذكر الحكيم على قلب الروح الحق نبىّ الإسلام صلى الله عليه وسلم ليكون للعالمين هاديا ونورا مبينا . ونجد فى القرآن الكريم نصوصا كثيرة منسوبة إلى المسيح عليه وسلم وإلى الصِّدِّيقة مريم وإلى الحواريين ، ونصوص أخرى تُذكر فيها أدق تفاصيل بعثة المسيح عليه وسلم وما قاله قومه له وما فعله الله به فى أواخر بعثته ، وتبرئته وأمّه العفيفة الشريفة من أقوال الناس فيهما .
ونصّ إنجيل يوحنا هنا يقول بأنَّ الروح الحق سوف يجعلهم يتذكرون كل ما قاله المسيح عليه وسلم . وهذا معناه أنَّ أتباعه سوف ينسون كثيرا من أقوال المسيح وتعاليمه فيذكرهم بها الروح الحق عند مجيئه .
وسأضرب مثالين اثنين من داخل نصوص الذكر الحكيم من بين عشرات النصوص التى كشف عنها القرآن وذكَّرَ بها الناس :
ففى المثال الأول ذكرَ القرآن الحوار الذى دار بين المسيح عليه وسلم وحوارييه بشأن طلب نزول مائدة مِن السماء ، تلك الحادثة التى نسيها الأتباع ولم يبق منها إلا الذى يُطلقون عليه بالعشاء الأخير الذى أصبح سَرَّا من أسرار المسيحية الكبرى .
قال تعالى فى الذكر الحكيم ( سورة المائدة / الآيات من 112 ـ 115 ) : ( إذ قال الحواريون يا عيسى ابنَ مريمَ هل يستطيع ربُّك أن يُنزِّل علينا مائدة مِن السماء ، قال اتقوا اللهَ إن كنتم مؤمنين . قالوا نُريدُ أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلمَ أن قد صَدَقتنا ونكونَ عَليها مِن الشاهدين . قال عيسىَ ابنُ مريمَ اللهُمَّ ربَّنا أنزل علينا مائدة مِنَ السماء تكونُ لنا عِيدا لأوَّلنا وآخرنا وآية مِنك وارزقنا وأنت خير الرَّازقين . قال الله إنِّى مُنزلها عليكم ، فمن يكفر بعدُ منكم فإنى أعذبهُ عذاباً لا أعذبهُ أحداً مِن العالمين ) .
وفى المثال الثانى يُخبرُ الذكر الحكيم بما قاله المسيح عليه وسلم لقومه مِن بنى إسرائيل بشأن النبىّ الآتى بعده والذى هو موضوع بحثنا هذا .
فقال تعالى فى سورة الصًّف الآية الخامسة :( وإذ قال عيسىَ ابنُ مَرْيمَ يا بَنى إسرائيل إنى رَسُولُ اللهِ إليكم مُصَدِّقا لِمَا بَين يَدَىَّ مِن التوراة ومُبَشِّرا برَسُولٍ يأتى مِن بعدى اسْمُهُ أحْمَدُ) .
هذا النصّ الذى يتناساه المسيحيون ويحاولون طمس معالمه ومَحْو آثاره من ترجمات إنجيل يوحنا . بقولهم إنَّ البارقليط هو الروح القدس ، يقولون ذلك وهم لا يعلمون معنى كلمة بارقليط الآرامية ..!!
كما يُحاول أيضا علماء الإسلام أن يثبتوا أنَّ كلمة بارقليط يونانية وأنها تحريف لكلمة يونانية أخرى هى بيركلوت بمعنى الأكثر حمدا وليست باركليت التى تعنى المعزَّى أو المؤيد أو الشفيع أو المساند أو المدافع أو المستشار إلى آخر ما قالوه ، وهم يبنون أقوالهم واستنتاجاتهم على أساسات بالية متداعية غير صحيحة ، فلم يتكلم المسيح عليه وسلم اليونانية ، ولم يكتب يوحنا إنجيله بالآرامية ..!!
ويبقى قول المسيح عن البارقليط الآتى من بعده شوكة فى ضمائر المسيحيين المؤمنين تؤرقهم إذا ما وقعت أعينهم على نصّ يوحنا ( 14 : 26 ) " يُعَلمَكُمْ كل شىء ويذكركم بكل ما قلته لكم " . ويبقى النصّ القرآنى المُنزَّلُ على النبىّ الحق صلى الله عليه وسلم مُذكّرًا وشاهدا عليهم إلى يوم الدين .
والأمثلة كثيرة فى الذكر الحكيم أكتفى بهذين المثالين لعل الشفاء يكون فيهما وفى باقى أبحاث ذلك الكتاب . وصدق الله العظيم حين قال فى الذكر الحكيم : ( ومِنَ الذين قالوا إنَّا نصَارَى أخذنا مِيثاقهُم فنسُوا حَظاً مِمَّا ذكِّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . وسوف يُنبِّئهمُ الله بما كانوا يصنعون . يا أهل الكتاب قد جَاءَكم رسُولنا يُبيِّنُ لكم كثيرا مما كنتم تخفون مِن الكتاب ويَعفو عن كثير قد جَاءَكم مِن الله نور وكِتاب مُبين . يَهْدِى بِهِ الله مَنِ اتبعَ رضوانه سُبُلَ السلام . ويُخرجهم مِن الظلمات إلى النور بإذنِهِ ، ويَهْديهم إلى صِراط مُسْتقيم . لقد كفر الذين قالوا إنَّ اللهَ هُوَ المسيح ابن مَريمَ ، قل فمَن يَمْلِكُ مِن اللهِ شيئاً إن أرادَ أن يُهْلِكَ المسيحَ ابنَ مريمَ وأمَّهُ ومَن فى الأرض جميعا . وللهِ مُلكُ السمَاواتِ والأرضِ وما بينهما يَخلق ما يَشاءُ ، واللهُ على كل شىء قدِير . وقالت اليهود والنصارى نحنُ أبناؤُا اللهِ وأحِبَّاؤهُ . قل فلمَ يُعذبكم بذنوبكم . بل أنتم بَشرٌ مِمَّن خلقَ ، يَغفِرُ لمن يَشاءُ ويُعذب مَن يَشاءُ ، وللهِ مُلك السماوات والأرضِ وما بينهما وإليهِ المصير . يا أهل الكتاب قد جاءكم رسُولنا يُبيِّنُ لكم على فترةٍ مِنَ الرُّسُل أن تقولوا ما جاءنا مِن بشير ولا نذير . فقد جاءكم بشير ونذير . واللهُ على كل شىء قدير ) ( المائدة / الآيات من 14 ـ 19 ) .
3 .. يشهد للمسيح عليه وسلم ( يوحنا 15 : 26 ) :
وكلمة يشهد فى الأصل اليونانى هى ( μαρτυρησει ) والتى تنطق مارتوريسى وتحمل الرقم ( 3140 ) ، وأصل معناها هو " إعطاء تقرير صادق أمين عَنْ " إمَّا مكتوبا أو مسموعا .
ولذا قالت نسخة ( LB ) ( will tell you all about me ) بمعنى سيخبركم عن كل شىء عنِّى ، وابتعدت عن معنى الكتابة التى لا تتطابق مع القول بأنَّ البارقليط هو الروح القدس ..!!
وقالت نسخة ( TEV ) : ( He will speak about me ) بمعنى سوف يتكلم عنِّى فذكرت كلمة يتكلم ( speak ) التى لا تتفق مع الروح القدس ..!!
وجاء البارقليط الرسول الحق صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن الكريم فيه تقرير صادق أمين كامل عن المسيح صلى الله عليه وسلم منذ الحمل به وولادته وبعثته ومعجزاته لن تجد أكثرها فى الأناجيل المتداولة الآن بين الناس .
تقرير مكتوب بين دفتى المصحف الشريف ومسموع من أفواه المُقرئين لكتاب الله . قال تعالى ( آل عمران / 45 ـ 59 ) : ( إذ قالت الملائكة يا مريمُ إنَّ اللهَ يُبشُّركِ بكلمة مِنهُ اسمهُ المسيحُ عيسىَ ابنُ مريمَ وجيها فى الدنيا والآخرةِ ومِنَ المُقربين . ويُكلِّمُ الناسَ فى المَهْدِ وكهلا ومِنَ الصالحين . قالت رَبِّ أنَّى يكونُ لى وَلدٌ ولم يَمْسَسْنِى بَشرٌ ، قال كذلكِ اللهُ يُخلق ما يشاءُ ، إذا قضى أمْراً فإنما يقول لهُ كُن فيكونُ . ويُعَلمَهُ الكتاب والحِكمةَ والتوراةَ والإنجيل . ورسولا إلى بنى إسرائيلَ أنِّى قد جئتكم بآيةٍ مِن ربِّكم أنِّى أخلق لكم مِن الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، وأبرىء الأكمه والأبرصَ وأحْيىِ الموتى بإذن اللهِ ، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم . إنَّ فى ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين . ومُصدَّقا لما بين يدىَّ مِن التوراة ولأحل لكم بعض الذى حُرِّمَ عليكم ، وجئتكم بآية مِن ربِّكم . فاتقوا الله وأطيعون . إنَّ اللهَ ربِّى وربُّكم فاعبدوه هذا صراط مُستقيم . فلمَّا أحَسَّ عِيسى مِنهم الكفر قال مَن أنصارى إلى الله . قال الحواريون نحنُ أنصارُ اللهِ آمَنـَّا باللهِ واشهد بأنَّا مُسلمون . ربَّنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسولَ فاكتبنا مع الشاهدين . ومَكروا ومكرَ اللهُ ، واللهُ خيرُ الماكرين . إذ قال اللهُ يا عيسى إنِّى مُتوفيك ورافعك إلىَّ ومُطهِّرُك مِن الذين كفروا وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . ثمَّ إلىَّ مَرجعكم فأحكمُ بينكم فيما كنتم فيه تختلفون . فأمَّا الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً فى الدنيا والآخرة . وما لهم مِن ناصرين . وأمَّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفِّيهم أجورهم واللهُ لا يُحب الظالمين . ذلك نتلوهُ عليكَ مِنَ الآيات والذكر الحكيم . إنَّ مَثلَ عِيسىَ عند اللهِ كمثلِ آدمَ ، خلقهُ مِن تراب ثمَّ قال له كُن فيكونُ ) .
قارئى العزيز .. أليس ذلك بتقرير كامل صادق عن المسيح عليه وسلم ..!؟؟
ومِن أين جاء به ذلك النبىّ الأمِّىّ ومعظم ما فيه غير مُسجل فى الأناجيل المعروفة المتداولة بين الناس ..!؟؟ وهل عند إخواننا المسيحيون تقريرا آخرا عن المسيح جاء به الروح القدس ..!!؟؟
أعتقد أنَّ العقلاء مِن المسيحيين سيلزمون الصمت أمام ذلك التقرير الشاهد .
4 .. يُبَكِّت العالم على الخطيئة وعلى البر وعلى الدينونة ( 16 : 8 ) :
وكلمة يُبَكِّت فى الأصل اليونانى هى ( ελεγξει ) ومِن معانيها : يُدِن ويُجَرِّم ويُفحِم ويُدْحِض ويُبيِّن الخطأ من الصواب ويستنكر ويُوَبِّخ . وكلها أفعال لا يقوم بها إلا مَنْ أوتى القوة والمنطق ليُدينَ ويُجَرِّمَ ويُفحِمَ ويُبيِّن الخطأ من الصواب ويدعو إلى الابتعاد عن الخطأ ، بمعنى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .
ومِن أشهر المبادىء الأساسية التى جاء بها البارقليط الرسول الحق صلى الله عليه وسلم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
قال تعالى فى قرآنه : ( الذين يتبعُون الرَّسُول النبىَّ الأمِّىَّ الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحِلُّ لهم الطيِّبات ويُحَرِّمُ عليهم الخبائث ويَضعُ عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم ، فالذين آمنوا به وعزَّروه ونصروه واتبعوا النورَ الذى أنزل معَهُ أولائك هم المفلحون ( ( 157 / الأعراف).
وأظهر صلوات الله وسلامه عليه الحق ودَحَضَ الله به الباطل ، ووقف تُجاه الفرس والروم ، فأزال الله به الشرك مِن معظم الأرض المعمورة حينذاك وحَلَّ دين الله وعبادة الإله الواحد بين العالمين . وبَيَّنَ وأظهرَ أنَّ هناك مَعَادٌ وحساب فى يوم القيامة ـ الدينونة ـ وأنَّ هناك جنَّةٌ أو نار .
قال تعالى لخاتم رسله مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم : ( قل يا أيها الناس إنِّى رسول اللهِ إليكم جميعا الذى له مُلك السماوات والأرض . لا إله إلا هو يُحْىِ ويُميت . فآمنوا باللهِ ورسوله النبىِّ الأمِّىِّ الذى يؤمن بالله وكلمتِهِ واتبعوه لعَلكُم تهتدون ) ( 158 / الأعراف ) .
5 .. يُرشد الناس إلى الحق كله ( يوحنا 16 : 13 ) :
وهذا الأمر له تعلُّق بما جاء فى الفقرة الأولى ، إلا أنَّ المسيح عليه وسلم هنا يفيدنا بأنَّ البارقليط النبىّ الحق صلى الله عليه وسلم سيكون آخر الأنبياء فلا نبىّ بعده . فهذا النبىّ صلى الله عليه وسلم سيرشدُ الناس إلى الحق كله ، فليس هناك حق آخر يحتاج لنبىّ آخر ليُرشدَ إليه . فجميع الأنبياء السابقين قد بيَّنوا لأممهم الحق الذى يحتاجونه وليس الحق كله لأنهم لا يُطيقونه فى زمانهم كما قال المسيح لتلاميذه " لا يزال عندى أشياء كثيرة أقولها لكم ولكنكم لا تطيقون الآن حملها . فمتى جاء هُوَ أى الروح الحق أرشدكم إلى الحق كله " .
فلم يقل المسيح عليه وسلم كل ما يعرفه من الحق لتلاميذه ، اشعارا منه صلى الله عليه وسلم بأنَّ القادم من بعده سيكمل اظهار الحق كله ، إضافة إلى أنَّ هذا النبىّ الخاتم صلى الله عليه وسلم سيُبيِّنُ الحق كله للناس أجمعين خلاف المسيح الذى بيَّن ما عنده مِن حق لقومه فقط من بنى إسرائيل .
قال تعالى فى الذكر الحكيم ( يا أيها الناس قد جاءكم الرَّسُولُ بالحق مِن ربِّكم فآمنوا خيرا لكم ، وإن تكفروا فإنَّ للهِ ما فى السماوات والأرض ، وكان الله عليما حكيما ) ( 170 / النساء ) . وقالت الجِنُّ عندما سمعوا للقرآن يُتلى عليهم ( يا قومنا إنَّا سَمِعْنا كتابا أنزل مِن بعد موسى مُصَدِّقا لما بين يَديه يَهدى إلى الحَقّ وإلى طريق مُستقيم يا قومنا أجيبوا داعىَ اللهِ وآمنوا بهِ يَغفر لكم مِن ذنوبكم ويُجرْكُم مِن عذابٍ أليم ) ( 30 ـ 31 / الأحقاف ) .
6 .. يُخبرُ عن أمور غيبية سوف تحدث فى المستقبل ( 16 : 13 ) :
هناك أمورا غيبية كثيرة أخبرعنها الرسول الحق نبىّ الإسلام صلى الله عليه وسلم سجلها العلماء فى كتب دلائل النبوَّة ، فمن أراد الاطلاع عليها فليطالعها فى أماكنها من كتب السيرة ودلائل النبوَّة ولكنى سأختار هنا مثلا واحدا فقط ، أراه يتحقق فى عصرنا ولم يكن له وجود قبل ذلك وهو تواجد دولة إسرائيل فى فلسطين منذ عام 1948م .
فقد وردت أحاديث كثيرة عن نبىّ الإسلام صلى الله عليه وسلم تتحدث عن قتال المسلمين لليهود فى منطقة بيت المقدس ولم يكن هناك يهود فى فلسطين فى ذلك العصر وإلى منتصف القرن العشرين الميلادى . ودخل الإسلام فلسطين ولم يكن فيها يهودى واحد منذ أن تم تدمير معبدهم على يد الرومان سنة 70 م ، وحافظ المسيحيون من بعدهم على خلو منطقة فلسطين من اليهود .
وكان علماء المسلمين القدماء ينظرون إلى هذه الأحاديث ولا يفهمون مغزاها فأحالوها إلى آخر الزمان . والآن فى عصرنا هذا أصبحت هذه الأحاديث هى مدار الشرح والتفسير حيث تواجد اليهود فى فلسطين وقاتلوا المسلمين ولا يزالون يقاتلونهم .
وحول ذلك القتال الدائر بين اليهود والمسلمين فى فلسطين بأكناف بيت المقدس يُلخص القرآن الكريم القضية من أولها لآخرها : فقال عن جلوتهم الكبرى من فلسطين على يد الرومان صلى الله عليه وسلم وقطَّعناهم فى الأرض أسباطا أمما ) ( 168 / الأعراف ) فتشتتوا فى البلاد . وقال عن تجمعهم فى فلسطين مرة أخرى ( فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ) ( 104 / الإسراء ) .
وقامت دولة اليهود بمساعدة الغرب المسيحى . وبدأ الصراع الذى نعيشه الآن بين المسلمين واليهود . ويخبرنا القرآن الكريم عن جولتين حاسمتين بتفصيل مذهل نرى بوادره بأعيننا فقال تعالى فى سورة الإسراء ( 4 ـ 8 ) :
( وقضينا إلى بنى إسرائيل فى الكتاب لتُفسِدُنَّ فى الأرض مَرَّتين ولتعْلنَّ عُلواً كبيرا . فإذا جاء وَعْدُ أولاهما بعثنا عليكم عِبادا لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، وكان وعدا مفعولا . ثمَّ رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا . إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، وإن أسأتم فلها ، فإذا جاء وَعْدُ الآخرة ليسوئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليُتبِّروا ما عَلوا تتبيرا . عسى ربُّكم أن يرحمكم وإن عُدتُّم عُدْنا . وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) .
لقد كُنَّا نحن المسلمين ننظر إلى هذه الآيات فى الماضى على أنَّ أحداثها قد وقعت فى الماضى ، ولكن التاريخ لا يشهد بذلك ..
فلم تكن لبنى إسرائيل كرة على محاربيهم من الآشوريين أتباع بختنصّر ولم يهزموا الرومان . وكلا الطائفتين لم تكونا مِن عباد الله المؤمنين حتى يصفهم القرآن بأنهم ) عبادا لنا ( . كما لم يكن هناك فى فلسطين قبل ظهور الإسلام مسجدا ، وإنما كان هناك بيت المقدس أو المعبد . فتأملوا جيدا فى قول الله تعالى ) وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ( . فالانتصار على بنى إسرائيل فى فلسطين سيكون على يد المسلمين بإذن الله أصحاب المسجد .
7 .. سيُمَجِّد المسيح عليه وسلم بالقول الصادق ( يوحنا 16 : 14 ) :
وكلمة يُمَجِّد فى الأصل اليونانى هى ( δοξασει ) وأحيانا ( δοξαζω ) والتى تحمل الرقم ( 1392 ) وهى من الفعل ( δοξα ) الذى يُنطق دوكسا بمعنى يُمَجِّد أو يُعلى شأن أو يُوَقِّر أو يُجِلّ أو يُكرِّم .
قلت جمال : ولا يوجد شخص فى التاريخ البشرى أعْلى شأن المسيح صلى الله عليه وسلم وكَرَّمَهُ ودافعَ عنه مما لصق به مِن شبهات باطلة وأقوال زائفة إلاَّ نبىّ الإسلام صلى الله عليه وسلم . فكم مِن آيات قرآنية يتعبَّدَ بتلاوتها المسلمون فى صلواتهم كل وقت وحين . تكلمت عن المسيح منذ حمله وولادته ونشأته وبعثته ..؟؟ وهناك ثلاث آيات قرآنية بيَّنت أنَّ الله تعالى قد أيَّد المسيح بـ روح القدس أى نبىّ الإسلام عليه وسلم كما ثبت لى مِن بحثى عن المؤيِّد القرآنى (3) . ولم نسمع أنَّ الروح القدس قد دافع عن المسيح عليه وسلمأمام هرطقات آباء الكنائس الأولى والأخيرة . ولا يوجد شخص معروف قد جاء بتمجيد المسيح وإعلاء شأنه وتكريمه فى الديانة المسيحية أطلقوا عليه لقب بارقليط أو روح الحق أو حتى نبىّ ..!!
8 .. " يبقى معكم إلى الأبد " ( يوحنا 14 : 16 ) :
فيه دليل قوى على أنَّ هذا البارقليط الآخر سيكون آخر سلسلة البارقليطات أى سيكون خاتم البارقليطات . كما أنَّ فيه اشارة إلى أنَّ المسيح عليه وسلم لن يبقى معهم إلى الأبد . فرسالته محدودة فى زمانها خلاف رسالة البارقليط الآتى .
ولكن كيف سيبقى ذلك البارقليط إلى الأبد مع أنَّ كل نفس ذائقة الموت ..!؟
لقد بقى فينا كليم الله موسى بأقواله وتوراته ، وبقى فينا المسيح بأقواله وإنجيله . وهكذا سيبقى بيننا البارقليط الآخر بأقواله وكتابه . ولن يبقى بجسمه المادىّ فكل نفس ذائقة الموت . فها هو القرآن الكريم نقرأه بين أيدينا نتلوه ونحفظه عن ظهر قلب . وها هى السنة المُطَهَّرة نتدارسها ، كأنه صلى الله عليه وسلم بيننا .
ويعتبر الإسلام هو الرسالة الوحيدة التى أعلنت ختم النبوَّة وخلود الرسالة . وهذا لم يحدث فى اليهودية أو فى المسيحية . ونِعْمَ قول حسَّان بن ثابت رضىَ الله عنه وهو يَمدح نبىّ الإسلام بقوله :
وضمَّ الإله اسم النبىّ إلى اسمه .. إذا قال فى الخمس المؤذن أشهدُ
وشــــقَّ له من إسمــــــه ليحلّه .. فذو العرْش محمودٌ وهـذا مُحَمَّدُ
والخلاصة : أنَّ هذه الصِّفات الشخصية والفعلية لا تنطبق على أمر معنوى فى قلوب بعض الناس . أمر معنوى لا يُرَى بالأعين ولا يُسْمعُ بالأذن . وإنما تنطبق على شخص يراه الناس ويسمعون كلامه . فيشهد للمسيح ، ويُعلمهم كل شىء . ويُذكرهم بكل ما قاله المسيح لهم . يُرشد الناس إلى الحق كله . ولا ينطق مِن عند نفسه بل يتكلم بما يسمع مِن الوَحْى . ويُخبرهم بكل ما يأتى مِن أحداث دينية هامة . ويُعرِّفهم جميع ما لرب العالمين .
وتكون رسالته خالدة فلا نبىّ بعده . وهذا لا يكون مَلَكاً لا يراه أحد ولا يكون هُدىً وعِلماً فى قلوب بعض الناس ، بل يكون مثل المسيح عليه وسلم تماما فى خِلقته ( αλλον ) رجلا كاملا ، ولكنه أعظم منه فى الصفات والأفعال حسب قول المسيح عليه السلام فى شأنه . فهو يُخبر بما لم يقدر المسيح أن يُخبر به . ويُعَلِّمُ بما لم يعلمه المسيح ، ويُخيرُ بكل ما سيأتى وبما يستحقه الرَّب المعبود . إنَّهُ رسول الله إلى العالمين .. أحمد صلى الله عليه وسلم .
هَمْسَة عِتاب للعلماء المسلمين والمسيحيين ..!!
لقد وقع جميع العلماء مِن الطرفين فى خطأ جسيم ، ألا وهو القول بأنَّ كلمة بارقليط يونانية الأصل ، مع أنها لا توجد فى اليونانية . والموجود فقط هو منطوق الكلمة ملحونا باللسان اليونانى هكذا باركليت ( παρακλητ ) فالقاف والطاء لا يُعْرفان فى اليونانية والبديل لهما فى الصوت هما الكاف والتاء .
وحتى هذه الكلمة باركليت ليس لها معنى فى اليونانية لأنها ليست من مفرداتها . ولذا لجأ علماء المسيحية إلى أقرب الكلمات اليونانية شكلا ومخرجا . فاختاروا كلمة باراكاليو ( παρακαλεω ) التى بمعنى المُعَزى وقالوا بأنَّ أصل الكلمة هو باراكاليو . ولكن يوحنا لم يقل باراكليو وإنما قال باركليت .
وقد سبق الكلام على كل الترجمات للمصطلح بارقليط اليوحناوى التى أتوا بها من كلمات يونانية متعددة مثل ( παρακλησις ) أو ( βονλεντης ) أو ( εντνγχανω ) أو ( αντιλπτωρ ) أو ( παρακλητος ) أو ..... الخ . وكلها كلمات يونانية لا علاقة لها بالبارقليط فى أصل لغته .
ولجأ علماء المسلمين إلى القول بأنَّ أصل الكلمة اليونانية هى بيروكليت وليست باركليت ، وأنَّ النُسَّاخ قد أخطؤا فى كتابة الكلمة اليونانية ، وكلّ ذلك حتى يجعلوا معنى المصطلح اليوحناوى باركليت معناه أحمد فى العربية ..!!
ولكن للأسف الشديد لا توجد نسخة معروفة لإنجيل يوحنا مكتوبا فيها كلمة بيروكليت ..!!
والأمر أيسر مِن ذلك كثيرا .. لماذا لا تقولون بأنَّ الكلمة أصلها آرامى لغة المسيح عليه وسلم التى تكلم بها ، ثم تبحثون عنها فى نصوص الأسفار اليهودية والمسيحية المكتوبة بالآرامية أو العبرية القديمة ذات اللسان الآرامى أيضا ..!!؟
إنه مَطْلب بديهى عند المتفكرين الذين يبحثون عمَّا يجهلون ، وليس عند الذين يبحثون عن شىء يؤمنون به ..!!
فهذا المصطلح اليوحناوى عندما تُرجم فى القرن الثالث مِن اليونانية إلى السُرْيانية كتبوه فى النسخة البشيطة السريانية بارقليطا بالألف الممدودة فى آخر الكلمة والتى هى أداة التعريف العربية أى البارقليط . وهو مُكون مِن كلمتين آراميتين هما بار وقليط . فهذا المنطوق بارقليط أقرب إلى لغة المسيح مِن اليونانى باركليت .
ثمَّ إذا بحثنا فى الأسفار اليهودية سوف نجد كلمة قليط فى سفر اللاويين كما سبق بيانه . فالأمر سهل وممتع فى أن تتعقب معنى المصطلح الآن فى لغته الأم بدون رَجْم فى اختيار المعانى اليونانية التى لم تخطر على بال يوحنا ..!!
وليس بشرط عند المسلمين أن يكون معنى المصطلح بارقليط هو الإسم أحمد فهناك بشارات كثيرة واردة عن المسيح عليه وسلم بشأن خاتم الأنبياء والمرسلين النبىّ الأمِّىّ صلى الله عليه وسلم ربما نجد فيها معنى الإسم أحمد .
هذا وقد سبق مِنِّى الكلام على أنَّ اللغة الآرامية يندر فيها استخدام صيغة أفعل التفضيل ، فإن كان ولا بد فيأتون بكلمة أخرى مصاحبة للإسم للدلالة على أفعل التفضيل . فليكون البحث عن الإسم أحمد مِن تلك الناحية .
فالمصطلح بارقليط معناه رسول . ويكون معنى قول المسيح عليه وسلم :
" بارقليط آخر " هو " رسول آخر " تصديقا لقول المسيح فى القرآن الكريم ) ومُبَشِّرا برسول يأتى من بعدى ( . فالكلمتان رسول وبارقليط من أسماء الجنس وليسا من أسماء الأعلام حتى نقول بأنَّ بارقليط هو الاسم أحمد .
من كتاب نبي أرض الجنوب
ع . م / جمال الدين شرقاوى
الهامش
(1) .. راجع الكلمة رقم ( 2065 ) فى قاموس ( Lexical aids to the N.T ) المرفق بكتاب :
( NASB the Hebrew/Greek key study Bible ) .
(2) .. راجع ذلك المعنى اللغوى الدقيق فى كتاب :
( Expository Dictionary of the Bible words page 578 ) .
(3) .. الآيات أرقام ( 87 ، 253 / سورة البقرة ؛ 110 / سورة آل عمران ) .
راجع التفصيل فى كتابى المؤيِّد القرآنىّ والبارقليط الإنجيلى . وكتابى قضايا فى الإسلام والمسيحية .