عدالة المعدد
. العدالة تكون في الأمور التي للرجل فيها خيار. أما الأمور التي لا خيار للرجل فيها فلم يطالبه الله بها.
ومن السطحيين من يقول: إن الله قال: اعدلوا، ثم حكم أننا لا نستطيع أن نعدل. نقول لهم: بالله أهذا تشريع؟ ، أيعطي الله باليمين ويسحب بالشمال؟ ألم يشرع الحق على عدم الاستطاعة فقال: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 129] وما دام قد شرع على عدم الاستطاعة في العدل المطلق فهو قد أبقى الحكم ولم يلغه، وعلى المؤمن ألا يجعل منهج الله له في حركة حياته عضين بمعنى أنه يأخذ حكما في صالحه ويترك حكما إن كان عليه. فالمنهج من الله يؤخذ جملة واحدة من كل الناس؛ لأن أي انحراف في فرد من أفراد الأمة الإسلامية يصيب المجموع بضرر. فكل حق لك هو واجب عند غيرك، فإن أردت أن تأخذك حقك فأدّ واجبك. والذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يأخذوا حكم الله أيضا في العدل، وإلا أعطوا خصوم دين الله حججا قوية في إبطال ما شرع الله، وتغيير ما شرع الله بحجة ما يرونه من آثار أخذ حكم وإهمال حكم آخر.
والعدل المراد في التعدد هو القسمة بالسوية في المكان، أي أن لكل واحدة من المتعددات مكانا يساوي مكان الأخرى، وفي الزمان، وفي متاع المكان، وفيما يخص الرجل من متاع نفسه، فليس له أن يجعل شيئا له قيمة عند واحدة، وشيئا لا قيمة له عند واحدة أخرى، يأتي مثلا ببجامة «منامة» صوف ويضعها عند واحدة، ويأتي بأخرى عند قماش أقل جودة ويضعها عن واحدة، لا. لا بد من المساواة، لا في متاعها فقط، بل متاعك أنت الذي تتمتع به عندها، حتى أن بعض المسلمين الأوائل كان يساوي بينهن في النعال التي يلبسها في بيته، فيأتي بها من لون واحد وشكل واحد وصنف واحد، وذلك حتى لا تدل واحدة منهن على الأخرة قائلة: إن زوجي يكون عندي أحسن هنداما منه عندك.
والعدالة المطلوبة – أيضا – هي العدالة فيما يدخل في اختيارك؛ لأن العدالة التي لا تدخل في اختيارك لا يكلف الله بها، فأنت عدلت في المكان، وفي الزمان، وفي المتاع لكل واحدة، وفي المتاع لك عند كل واحدة، ولكن لا يطلب الله منك أن تعدل بميل قلبك وحب نفسك؛ لأن ذلك ليس في مكنتك.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعطينا هذا فيقول: عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقسم ويعدل ويقول:» اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك «يعني القلب» .
إذن فهذا معنى قول الحق: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] لأن هناك أشياء لا تدخل في قدرتك، ولا تدخل في اختيارك، كأن ترتاح نفسيا عند واحدة ولا ترتاح نفسيا عند أخرى، أو ترتاح جنسيا عند واحدة ولا ترتاح عند أخرى، لكن الأمر الظاهر للكل يجب أن تكون فيه القسمة بالسوية حتى لا تدل واحدة على واحدة. وإذا كان هذا في النساء المتعددات – وهن عوارض – حيث من الممكن أن يخرج الرجل من أي إمرأة – بطلاق أو فراق فما بالك بأولادها منه؟ لا بد أيضا من العدالة.
والذي يفسد جو الحكم المنهجي لله أن أناسا يجدون رجلا عّدد، فأخذ إباحة الله في التعدد، ثم لم يعدل، فوجدوا أبناءه من واحدة مهملين مشردين، فيأخذون من ذلك حجة على الإسلام. والذين حاولوا أن يفعلوا ما فعلوا في قوانين الأحوال الشخصية إنما نظروا إلى ذلك، التباين الشديد الذي يحدثه بعض الآباء الحمقى نتيجة تفضيل أبناء واحدة على أخرى في المأكل والملبس والتعليم! إذن فالمسلم هو الذي يهجر دينه ويعرضه للنقد والنيل من أعدائه له. فكل إنسان مسلم على ثغرة من ثغرات دين الله تعالى فعليه أن يصون أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته من أي انحراف أو شطط؛ لأن كل مسلم بحركته وبتصرفه يقف على ثغرة من منهج الله، ولا تظنوا أن الثغرات فقط هي الشيء الذي يدخل منه أعداء الله على الأرض كالثغور، لا، الثغرة هي الفجوة حتى في القيم يدخل منها خصم الإسلام لينال من الإسلام.
إنك إذا ما تصرفت تصرفا لا يليق فأنت فتحت ثغرة لخصوم الله. فسدّ كل ثغرة من هذه الثغرات، وإذا كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد توسع في العدل بين الزوجات توسعا لم يقف به عند قدرته، وإن وقف به عند اختياره، فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين مرض كان من الممكن أن يعذره المرض فيستقر في بيت واحدة من نسائه، ولكنه كان يأمر بأن يحمله بعض الصحابة ليطوف على بقية نسائه في أيامهن فأخذ قدرة الغير.
وكان إذا سافر يقرع بينهن، هذه هي العدالة.
وحين توجد مثل هذه العدالة يشيع في الناس أن الله لا يشرع إلا حقا، ولا يشرع إلا صدقا، ولا يشرع إلا خيرا. ويسد الباب على كل خصم من خصوم دين الله، حتى لا يجد ثغرة ينفذ منها إلى ما حرم دين الله، وإن لم يستطع المسلم هذه الاستطاعة فليلزم نفسه بواحدة. ومع ذلك حين يلزم المسلم نفسه بزوجة واحدة، هل انتفت العدالة مع النفس الواحدة؟ لا، فلا يصح ولا يستقيم ولا يحل أن يهمل الرجل زوجه. ولذلك حينما شكت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن زوجها لا يأتي إليها وهي واحدة وليس لها ضرائر، فكان عنده أحد الصحابة، فقال له: أفتها «أي أعطها الفتوى» .
قال الصحابي: لك عنده أن يبيت عندك الليلة الرابعة بعد كل ثلاث ليال.
ذلك أن الصحابي فرض أن لها شريكات ثلاثا، فهي تستحق الليلة الرابعة. وسُر عمر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْه – من الصحابي؛ لأنه عرف كيف يفتي حتى في أمر المرأة الواحدة.
إذن قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} [النساء: 129] أي لا تظنوا أن المطلوب منكم تكليفيا هو العدالة حتى في ميل القلب وحبه، لا. إنما العدالة في الأمر الاختياري، ومادام الأمر قد خرج عن طاقة النفس وقدرتها فقد قال – سبحانه -: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} ويأخذ السطحيون الذين يريدون أن يبرروا الخروج عن منهج الله فيقولوا: إن المطلوب هو العدل وقد حكم الله أننا لا نستطيع العدل.
ولهؤلاء نقول: هل يعطي ربنا باليمين ويأخذ بالشمال؟ فكأنه يقول: اعدلوا وأنا أعلم أنكم لن تعدلوا؟ فكيف يتأتى لكم مثل هذا الفهم؟ إن الحق حين قال: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي لا يتعدى العدل ما لا تملكون من الهوى والميل؛ لأن ذلك ليس في إمكانكم، ولذلك قال: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} .