ولقد حاولت وسع جهدى المتواضع أن أسلك فى بحثى هذا طريقا موصلا للغاية المأمولة ومعى نصوص الأسفار المسيحية ، راجيا من الله أن تكون هذه الطريق هى التى أشار إليها أشعياء النبىّ ( أشعيا 35 : 8 ) فى قوله : " يكون هناك طريق سالكة يقال لها الطريق المقدسة ، لا يَعْبر فيها نجس ، ولا يضل إن سلكها جاهل " . ربما يقتنع بما أقول وأبرهن عليه قوم قد خفى عنهم الحق مع شدة ظهوره فهم " لا يرون النور الذى يلمع فى السماء " ( أيوب 37 : 21 ) .
ولا تزال هذه الدراسة تسير مع سابقاتها حسب المنهج المفضل إلىّ : العودة إلى الأصل بفكر العصر . دعوة إلى الاتصال لا إلى الانفصال . دعوة جامعة لبنى وطنى العربى الحبيب مسلمين ومسيحيين ، تحت ظلال المجادلة بالتى هى أحسن فالدين لله ولرسوله وللمؤمنين ، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى . ورحم الله من تتبع أخطائى ثم أهداها إلىّ . رب اجعل لى لسان صدق فى الآخرين .
أولا :
شهادة كليم الله موسى عليه السلام
وتلك الشهادة نجدها فى سفر التثنية ( 32 : 21 ) . ويعتبر الاصحاح 32 الوارد فيه تلك الشهادة خطبة كاملة ألقاها نبىّ الله موسى عليه السلام على مسامع بنى إسرائيل . استعرضَ فيها تاريخ بنى إسرائيل منذ خروجهم من مصر . كفرهم بآيات الله وجحدهم لنعم الله عليهم مع أنَّ الله كان قد فضلهم على العالمين حينذاك . ثم أنبأهم موسى عليه السلام بما سيكون عليه حالهم فيما سيأتى من الأزمنة من عبادتهم لآلهة مزعومة غير الله تعالى ، واتخاذهم للأوثان والذبح لها . وقتلهم الأنبياء بغير حق وما شابه ذلك من أفعال كفرية ينتج عنها أنَّ الله سبحانه وتعالى سوف ينقل اصطفائه لهم وأفضليتهم على العالمين إلى أمَّة أخرى جزاء بما قدمت أيديهم .
وهذه الأمَّة الجديدة حاملة الاصطفاء الإلهى الخالد والأفضلية الخاتمة تعتبر عند بنى إسرائيل أمَّة محتقرة وجاهلة حسب إعتقادهم . ولقد وفَّى الله تعالى بوعده الذى أخبر به موسى بن عمران عليه السلام فاصطفى سبحانه وتعالى الأمَّة العربية التى كانت فى ضلال مبين ، وتمت كلمته التى ألقاها إلى أبى الأنبياء إبراهيم r فى شأن البركة لإسماعيل ونسله ( تكوين 17 : 20 ؛ 21 : 13 , 18 ) . قال تعالى فى سورة الجمعة ] هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين [.
وسوف أذكر بعون الله تعالى نصّ سفر التثنية طبقا للترجمات العربية الأربع المعاصرة . إضافة إلى نسخة التوراة السامرية . ثم أعرج على بعض الترجمات الإنجليزية للنصّ ليتبين لنا صدق النبوءة ونتعرف على مدى الحقد الدفين والاحتقار المزعوم للأمَّة العربية .
نسخة كتاب الحياة ( ط 1988 )
|
النسخة الوطنية ( ط 1977 )
|
هيجوا غيرتى بعبادة أوثانهم . وأسخطونى بأصنامهم الباطلة لذلك سأثير غيرتهم بشعب متوحش . وأغيظهم بأمَّة حمقاء .
|
هم أغارونى بما ليس إلها . أغاظونى بأباطيلهم فأنا أغيرهم بما ليس شعبا . بأمَّة غبية أغيظهم .
|
نسخة الآباء اليسوعيين ( ط 1991 )
|
نسخة الكاثوليك ( ط 1993 )
|
هم أغارونى بمن ليس إلها . وأغضبونى بأباطيلهم . وأنا أغيرهم بمن ليسوا شعبا وبأمَّة حمقاء أغضبهم .
|
أثارونى بمن لا إله هو , وكدرونى بأصنامهم الباطلة ، وأنا سأثيرهم بشعب لا شعب هو . وأكدرهم بقوم جهلاء .
|
|
نسخة التوراه السامرية
|
|
هم أسخطونى بغير قادر . أكادونى بغبائهم . وأنا أغيرهم بغير قوم . بشعب ساقط أكيدهم .
|
دراسة النصّ : المتكلم هنا هو إله بنى إسرائيل . الكلمات والأسلوب من وضع المترجمين وكتبة النصّ . ورغم اختلاف الكلمات والحذف والاضافة فى النصّ فلا يزال المعنى العام واحدا فى الجميع ، وهو تغيير إصطفاء بنى إسرائيل بأمَّة أخرى . ثلاث نسخ أثبتت التغيير صراحة بلفظ ( وأنا أغيرهم ) ونسختان أخفتا التغيير تحت ستار الإثارة والغيرة والتكدير لبنى إسرائيل ..!!
والمتأمل فى الترجمات السابقة يجد أنَّ هذه الأمَّة وُصِفت بـ :
أولا : بأنها شعب متفرق لا يشكل كيان دولة واحدة ولذلك نجد ترجماتهم جاءت هكذا ( بما ليس شعبا ) و( بشعب لا شعب هو ) و( بمن ليسوا شعبا ) و( بغير قوم ) . وتلك صفات الأمَّة العربية فى جاهليتها حيث كانت مشكلة من عدة قبائل متفرقة لا تشكل شعبا كشعوب الأمم المعروفة . ونفهم من ذلك الوصف عدم انطباقه على الأمَّة اليونانية أو الأمَّة الرومانية كما يزعم علماء المسيحية .
ثانيا : وصفت هذه الأمَّة بأوصاف عدة . أفرغ فيها الكاتب والمترجم الحقد الدفين والاحتقار العميق للأمَّة العربية مثل ( أمَّة غبية ) و( أمَّة حمقاء ) و ( قوم جهلاء ) و ( شعب ساقط ) و ... الخ .
وإن ذهبنا إلى الترجمات الإنجليزية وجدنا المزيد من أشباه تلك الصفات مثل :
الترجمة العربية
|
النصّ الإنجليزى
|
اسم النسخة
|
أمَّة الحمقى
|
A nation of foolish
|
GNB
|
أمَّة ليس لها فهم
|
A nation of foolish
|
NIV
|
أمَّة حمقاء
|
Foolish nation
|
KJV, RSV
|
أمَّة أمية وثنية
|
Foolish heathen nation
|
LB
|
أمَّة بغير دين
|
A irreligious people
|
JB
|
وهناك صفات أخرى أعرضت عن ذكرها خشية الاطالة .
والمتأمل فى تلك الصفات يجد أنها لا تنطبق على اليونان أو وارثى حضارتهم من الرومان ، فقد كان اليونان متفوقين جدا على العالم المتحضر فى زمانهم . فى كل العلوم حيث نبغ فيهم الفلاسفة والحكماء وأرباب الفنون المتنوعة . كما أنهم كانوا عالمين بما فى التوراة من قبل بعثة المسيح عليه السلام بحوالى ثلاث مائة سنة عن طريق الترجمة السبعينية اليونانية للتوراه . فلم تكن أمَّة اليونان أمِّية ولا جاهلة ليس لها فهم .
ولكن الأمَّة العربية فى جاهليتها كانت أمَّة أمِّية جاهلة تعبد الأوثان تقربا إلى الله . أمَّا عن وصف المترجمين لها بأنها أمَّة الحمقى أوالحمقاء أو الغبية أو الساقطة فهذا من حقد اليهود الدفين على نسل إسماعيل وللبركة الموعودة له فى نسله . ثم انتقل ذلك الحقد إلى الطوائف المسيحية عن طريق اللقاح اليهودى الدائم للفكر المسيحى وارث الأسفار اليهودية . ولا يفوتنى هنا أن أذكر ترجمة نصّ سفر التثنية السابق كما ذكره رسول الأمم المسيحية اليهودى ( بولس الطرسوسى ) فى رسالته الرومية ( 10 : 19 ) لنرى كيف تم اللقاح اليهودى للفكر المسيحى :
النسخة الوطنية ( ط 1977 )
|
كتاب الحياة ( 1988 )
|
ألعل إسرائيل لم يعلم . أولا موسى يقول أنا أغيركم بما ليس أمَّة . بأمَّة غبية أغيظكم .
|
أما فهم إسرائيل ؟ إن موسى أولا يقول : سأثير غيرتكم بمن ليسوا أمَّة . وبأمَّة بلا فهم سوف أغضبكم .
|
نسخة الكاثوليك ( 1993 )
|
نسخة الآباء اليسوعيين ( 1991 )
|
إن بنى إسرائيل ما فهموا ؟ قال موسى من قبل : تحسدون شعبا لا يكون شعبى ، وأثير غيرتكم بشعب ما هو بشعب .
|
أترى إسرائيل لم يفهم ؟ سبق أن قال موسى : سأثير غيرتكم ممن ليسوا بأمَّة وعلى أمَّة غبية أغضبكم .
|
والكلمة اليونانية المستخدمة فى وصف الأمَّة ( الغبية ) هى كلمة ( ασυνετψ ) والتى تنطق أسينيتف بمعنى الأمَّة التى ليس لها بعد نظر . أو التى بدون بصيرة أو رأى ثاقب . وليست غبية كما كتب المترجمون ..!!
يقول الدكتور وليم أدى فى شرحه لهذا النصّ ( رومية 10 : 19 ) : " وهذا مقتبس من ( تث 32 : 21 ) على ماهو فى ترجمة السبعين ، وهو إنباء موسى بمستقبل بنى إسرائيل وهو أنهم فى ما يأتى من الأزمنة ، يهيجون غيرة الله وغيظه برفضهم إياه وإتخاذهم الأوثان ( التى ليست بآلهة ) آلهة . فلذلك هو يغيرهم برفضه إياهم وإتخاذه من ليسوا شعبا شعبا " (1) .
والخلاصة التى لا جدال فيها أنَّ نبوءة موسى عليه السلام فى شأن انتقال الرسالة وإصطفاء الله لأمَّة أخرى قد تحققت ، وشهد شاهد على صحة تلك النبوءة التى ينكرها علماء بنى إسرائيل ، وهذا الشاهد هو مؤسس الديانة المسيحية العالمية . والاختلاف الواقع بيننا نحن المسلمين وبين علماء المسيحية البوليسية هو فى تعيين هذه الأمَّة الأمِّية الجاهلة . فهم يقولون بأنها أمَّة اليونان . بل زعموا أنها الأمَّة العالمية أى جميع شعوب الأرض وأممها فكل معتنق للديانة المسيحية هو عندهم من تلك الأمَّة ..!!
وهذا التفسير يتعارض تماما مع الصفات المذكورة لهذه الأمَّة فى كل من سفرى التثنية والرسالة الرومية .
ولقد أفاد مؤلفو موسوعة زندرفان الكتابية الأمريكية أنَّ خصائص هؤلاء القوم المشار إليهم فى نصّ ( تث 32 : 21 ) الدينية والأخلاقية تسوغ لهم بالكاد أن يطلق عليهم اسم ناس ..!! فالنصّ ينكر عليهم أن يلحقوا بأى مجموعة طبيعية من البشر . وإليك نصّ الموسوعة كما هو بالإنجليزية :
“ The unusual expression of Deut. ( 32:21 ) .. literally a non-people denies to a physical group of humans those moral and spiritual characteristics which justify the name of people “ (2).
ونحن المسلمون نقول بأنَّ هذه الأمَّة الأمية الجاهلة هى الأمَّة العربية فى جاهليتها قبل عصر الاسلام ، حيث كانت لا تمثل شعبا واحدا بالمعنى الحرفى لكلمة الشعب فى كيان الدولة . ناهيك بأنها فعلا كانت أمَّة أمِّية لا تقرأ ولا تكتب إلا ما ندر فيها . والنصوص التوراتية الكثيرة تشير إليها منذ البداية فى أثناء الحديث عن البركة الممنوحة لإسماعيل وذريته من بعده ، وأنهم سيكونون أمَّة كبيرة عظيمة .
والاسقاط التاريخى لوقائع الأحداث يثبت صحة قول المسلمين ، حيث ظهر فيهم من قلب شبه الجزيرة العربية النبىّ الخاتم صلوات الله عليه شبيه موسى فكوَّنَ الدولة الاسلامية فى المدينة المنورة ، وجمع القبائل العربية تحت راية الاسلام . فكانوا خير أمَّة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
ع . م / جمال الدين شرقاوى
هوامش
(1) .. الكنز الجليل شرح رسالة رومية ص 163 .
(2) .. ( Encyclopedia of the Bible v4 page 376 Pictorial )
إلا ما ندر فيها . والنصوص التوراتية الكثيرة تشير إليها منذ البداية فى أثناء الحديث عن البركة الممنوحة لإسماعيل وذريته من بعده ، وأنهم سيكونون أمَّة كبيرة عظيمة .
والاسقاط التاريخى لوقائع الأحداث يثبت صحة قول المسلمين ، حيث ظهر فيهم من قلب شبه الجزيرة العربية النبىّ الخاتم صلوات الله عليه شبيه موسى فكوَّنَ الدولة الاسلامية فى المدينة المنورة ، وجمع القبائل العربية تحت راية الاسلام . فكانوا خير أمَّة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .