قال المسيح عليه السلام مخاطبا أحبار اليهود : " اسمعوا مثلا آخر : غرس رب بيت كرما ، وسيَّجَهُ وحفر فيه معصرة وبنى بُرْجا وآجره بعض الكرامين ثم سافر فلما حان وقت الثمر ، أرسل خدمه إلى الكرامين ليأخذوا ثمره . فأمسك الكرامون خدمه فضربوا أحدهم ، وقتلوا غيره ورجموا الآخر فأرسل أيضا خدما آخرين أكثر عددا من الأولين ففعلوا بهم مثل ذلك . فأرسل إليهم ابنه آخر الأمر وقال : سيهابون ابنى . فلما رأى الكرامون الابن ، قال بعضهم لبعض هو ذا الوارث ، هلمَّ نقتله ونأخذ ميراثه . فأمسكوه وألقوه فى خارج الكرم وقتلوه . فماذا يفعل رب الكرم بأولئك الكرامين عند عودته ..؟ قالوا له : يهلك هؤلاء الأشرار شر هلاك ، ويؤجر الكرم كرامين آخرين يؤدون إليه الثمر فى وقته . قال لهم يسوع : أمَا قرأتم قط فى الكتب " الحجر الذى رذله البناؤون هو الذى صار رأس الزاوية . من عند الرب كان ذلك وهو عَجَبٌ فى أعيننا . لذلك أقول لكم إنَّ ملكوت الله سينزع منكم ويعطى لأمَّة تثمر ثمره . من وقع على هذا الحجر تهشم ومن وقع عليه هذا الحجر حطمه . فلما سمع عظماء الكهنة والفريسيون أمثاله أدركوا أنه يُعَرِّضَ بهم فى كلامه فحاولوا أن يُمْسكوه ولكنهم خافوا الجموع لأنهم كانوا يعدونه نبيا " انتهى النصّ .
قلت جمال : نجد فى هذا المثل الرائع أنَّ صاحب هذا الكرم هو الله سبحانه وتعالى . وأنَّ ملكوت الله هنا هو دين الله ، قد شبه بهذا الكرم المجهز بكل ما يلزم للانتفاع به . وأنَّ هذا الكرم ـ الذى هو دين الله ـ قد أحيط بسياج من أحكام الشريعة وحدودها . والكرامون هنا هم بنوإسرائيل وعلى رأسهم الأحبار والرؤساء الذين استحفظوا على دين الله ووصاياه . وأنَّ عبيد صاحب الكرم هم الأنبياء والمرسلين . وأنَّ ابن صاحب الكرم كناية عن المسيح عليه السلام (1) .
قلت جمال : وتلك شهادة نعتز بها نحن المسلمون ، فالمسيح عليه السلام كان حقا آخر رسل الله إليهم كما نؤمن به .
لقد مكث بنوإسرائيل مدة طويلة متمتعين بنعم الله عليهم التى لا تحصى ولا تعد ومن أهمها إكرامهم بدين الله المنزل على موسى عليه السلام واختصاصهم بالأفضلية على العالمين ، ولكنهم انحرفوا عن الطريق القويم وقالوا بأنهم أبناء الله وأحباؤه . ولكن الله سبحانه وتعالى أرسل إليهم الأنبياء تترى ليعيدهم إلى حظيرة الايمان الحق " فجلدوا بعضا وقتلوا بعضا ورجموا بعضا " . وأشربت قلوبهم بالعصيان والجحود وظنوا أنهم الأوصياء على الدين بما استحفظوا . وكما قال بولس فى رسالته الرومية ( 3 : 2 ) : " واستؤمنوا على كلام الله ووصاياه " . فأرسل الله إليهم خاتمة أنبيائهم المسيح عيسى بن مريم عليه السلام فكفروا به وهموا به كما فعلوا بالأنبياء السابقين .
وهنا فى ذلك المثل نجد أنَّ المسيح عليه السلام يقيم الحجة على أحبار اليهود حين ألزمهم بقوله " فماذا يفعل صاحب الكرم مع هؤلاء الكرامون ..!؟ فأجابوه قائلين : يهلكهم هلاكا ثم يعطى الكرم إلى كرامين آخرين . فألزمهم بقولهم الذى قالوه : لذلك أقول لكم إنَّ ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمَّة تعمل أثماره " .
فواجههم عليه السلام بحقيقة المثل المضروب فى حقهم . إنَّ كل الامتيازات التى أنعمها الله عليكم سوف تنزع منكم وتعطى لأمَّة أخرى . ورغم وضوح المعنى لقومه اليهود إلا أنَّ الأتباع المسيحيين لا يفهمون ذلك المثل لسيطرة التقاليد الكنسية على العقول والقلوب .
" إنَّ ملكوت الله سينزع منكم ويعطى لأمَّة تثمر ثمره " ، وهم يعلمون جيدا أنَّ هذه الأمَّة هى المشار إليها فى سفر التثنية ( 32 : 21 ) وفى سفر أشعيا ( 65 : 1 ) . ولكنهم هنا فى ذلك الموضع يفسرون الأمَّة بالأمم بصيغة الجمع ..!!
يقول متى هنرى فى شرحه لإنجيل متى عند هذه الفقرة : " ( ويعطى لأمَّة ) أى للعالم الأممى . ( تعمل أثماره ) أولئك الذين لم يكونوا شعبا ، وكانوا غير مرحومين . أصبحوا أعزاء السماء .." (2) . ولكن قوله أولئك الذين لم يكونوا شعبا يفضحه ويدل على أنه يتكلم عن الأمَّة الأمية الجاهلة ..!!
وهناك من يتقيد منهم بالمعنى الحرفى ولا يريد أن يفهم ، مثل الذى قال فى معنى قول المسيح عليه السلام لأمَّة تؤدى ثمرا " .. لا نقصد هنا الأمم أى الوثنيون بل مجموعة تشبه الأمَّة المقدسة التى ورد ذكرها فى خروج ( 19 : 6 ) . وسيسلم ملكوت الله بعد اليوم إلى أمَّة مقدسة جديدة هى الكنيسة " (3) ..!!
قلت جمال :ومنذ متى كانت الكنيسة أمَّة ..!؟ وإن كانت جدلا أمَّة فأى الكنائس يقصد ..!؟ وهل يعترفون بأنَّ الكنيسة هى أمَّة الحمقى عديمة الفهم المنزوعة البصيرة كما وردت صفاتها فى سفر التثنية ( 32 : 21 ) ..!؟
لقد استؤمن اليهود على أقوال الله فخانوا وغدروا ( رومية 3 : 2 ) . فانتهت وكالتهم وامتيازاتهم ، وانتقلت النبوة والرسالة إلى أمَّة العرب . لتكون هى حاملة لكلام الله وكتابه الكريم .
جاء فى التفسير الحديث لمجموعة الدكاترة القسس الإنجيليين " أنَّ مجال عمل الله الخلاصى لم يعد فى نطاق أمَّة إسرائيل بل فى أمَّة أخرى " (4) . وقالوا أيضا " وليس المقصود هنا الأمم لأنَّ هذا يستلزم استخدام الجمع ( ethnesin ) وليس الفرد ( ethnei ) " (5) .
قلت جمال : وهكذا لن تجد اتفاقا بين أقوالهم لأنها كلها تلفيق وتكذيب . وكما نقول فى المثل الشعبى ( الكدب مالوش رجلين ) ..!!
فإن عملنا الاسقاط التاريخى للواقع الملموس والمشاهَد ، وجمعنا بين الشهادات الثلاثة للأنبياء الثلاثة موسى وأشعيا وعيسى عليهم من ربى أفضل السلام . سوف نجد هذه الأمَّة واضحة جلية بدون تدخلات كنسية عفى عليها الزمان . إنها البركة الإلهية الممنوحة لاسماعيل وذريته ، والتى تحققت فى أجل صورها بالبعثة الاسلامية وظهور النبىّ الاسماعيلى صلى الله عليه وسلم .
جاء فى تكوين ( 17 : 20 ) قول الله لابراهيم صلى الله عليه وسلم : " وأمَّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه . ها أنا أباركه وأثمره ، وأكثره كثيرا جدا ، اثنى عشر رئيسا يلد . وأجعله أمَّة كبيرة " . وفى تكوين ( 21 : 13 ) " وابن الجارية أيضا سأجعله أمَّة لأنه من نسلك " . وفى تكوين ( 21 : 18 ) : " سأجعله أمَّة عظيمة " .
وكثر نسل إسماعيل وكوَّنوا قبائل متفرقة سكنت فى أرض شبه الجزيرة العربية وكوَّنوا ما يشبه الشعب وما هو بشعب ، ولم يصيروا أمَّة واحدة أبدا إلا من بعد ظهور الاسلام . فكانوا الأمَّة التى استأجرها الله على كرمه وزرعه يؤدون ثمره يوم حصاده ] ومثلهم فى الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما [( 29 / سورة الفتح ) .
وأمَّا عن قول المسيح عليه السلام للأحبار : " أمَا قرأتم قط فى الكتب : الحجر الذى رفضه البناؤن هو الذى صار رأس الزاوية . من عند الرب كان ذلك وهو عجب فى أعيننا " . فإنه يحيلنا إلى سفر المزامير ( 118 : 22 ـ 24 ) لنجد النصّ فيه والذى منه استمد المسيح عليه السلام قوله لهم : " إنَّ ملكوت الله سينزع منكم ويعطى لأمَّة تثمر ثمره . مَن وقع على هذا الحجر تهشم ، ومَن وقع عليه هذا الحجر حطمه " .
والمسيح عليه السلام يذكرهم هنا بما هو مكتوب عندهم ، فأنبياء بنى إسرائيل شبهوا بأحجار استخدمت فى بناء بيت . وأنَّ البناؤن اليهود قد رفضوا حجرا معينا لم يضعونه فى مكانه من البناء . ولكن ذلك الحجر هو الذى صار رأس الزاوية فى البنيان . وهذا الحجر المرفوض هو النبىّ المنتظر من نسل إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهم . شبيه موسى عليه السلام والذى هو من إخوتهم من العرب .
جاء فى سفر التثنية ( 18 : 18 ) من النسخة العبرانية : " أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به " .
وجاء أيضا فى سفر التثنية ( 34 : 10 ) ما يفيد بأنَّ ذلك النبىّ لم يأت ولن يأت من بنى إسرائيل.
ومنعا لسوء الفهم أذكر هنا النصّ من النسختين العبرانية والسامرية :
التوراه العبرانية
|
|
ولم يقم بعد نبىّ فى إسرائيل مثل موسى الذى عرفه الرب وجها لوجه .
|
ولا يقوم أيضا نبىّ فى إسرائيل كموسى الذى ناجاه إلهه شفاها .
|
ذلك هو النبىّ الذى رفضه بنو إسرائيل , إنه حجر الزاوية الذى تختم به النبوة وتتم به رسالات السماء . والغريب فى الأمر أنَّ علماء المسيحية يقولون بأنَّ المسيح هو ذلك النبىّ ، مع أنهم يرفضون نبوته عليه السلام ، كما أنَّ النصّ التوراتى يصرح بأنه لن يكون من بنى إسرائيل ، والمسيح يقول معلقا على ذلك بقوله : " وهو عجب فى أعيننا " لقد صار ذلك النبىّ المنتظر هو رأس الزاوية فمن الطبيعى جدا حينذاك أن يقول المسيح عليه السلام : " لذلك أقول لكم إن ملكوت الله سينزع منكم ، ويعطى لأمَّة تثمر ثمره . من وقع على هذا الحجر تهشم ، ومن وقع عليه هذا الحجر حطمه " .
وهذا الوصف لا ينطبق على المسيح عليه السلام بكل المقاييس . فلم يهشم أحدا ولم يحطم أحدا ، تصديقا لما جاء فى إنجيل يوحنا ( 12 : 47 ) : " وإن سمع أحد كلامى ولم يؤمن به (6) فأنا لا أدينه لأنى لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم " .
ولكن النبىّ العربىّ الخاتمصلى الله عليه وسلم حطم وهشم الامبراطوريتان الفارسية والرومانية لأنهما وقفتا أمام دعوته ولم يؤمنا به . قال نبىّ الاسلام صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه البخارى ومسلم فى صحيحيهما : " إنَّ مثلى ومثل الأنبياء من قبلى ، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية . فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ..!؟ قال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " .
وقال صلى الله عليه وسلم: " أنا دعوة أبى إبراهيم وبشارة عيسى " (7) .
فهل بعد ذلك البيان بيان ..!!؟
قال تعالى ( آية رقم 105 / الأنبياء ) ] ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أنَّ الأرض يرثها عِبادِىَ الصالحون[ . وورث نسل إسماعيل الأرض الموعودة ولم يرثها نسل إسحاق ويعقوب . والواقع يشهد ، والعالم يشهد .
وهكذا يصير الآخرون أولين ، والأولون آخرين
إنَّ المعنى العام للدين هو التسليم والطاعة لله سبحانه وتعالى فى كل ما يريده من عباده على لسان رسله . وأول أمر إلهى جاء إلى البشر بواسطة الأنبياء والمرسلين هو إفراد العبادة لله وحده ] أمر أن لا تعبدوا إلا إياه [ (40/ يوسف ) وعلى ذلك الأمر بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . قال تعالى مخاطبا آخر أنبيائه ورسله عليه السلام : ] وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ ( 25 / الأنبياء ) . وقال عليه السلام : " أفضل ما قلت أنا والنبيين من قبلى لا إله إلا الله " . وبمثل ذلك المعنى قال المسيح عليه السلام : " للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد " ( إنجيل متى 4 : 10 ) . فتوحيد العبادة لله أمر لا جدال فيه . والاعتراف برسالة النبيين والمرسلين أمر ضلّ فيه الكثيرون ، فإذا لم يتم الاعتراف بالمرسلين فإنَّ توحيد العبادة لله يصبح أمرا عسيرا .
يقول المسيح عليه السلام كما جاء فى إنجيل يوحنا ( 17 : 3 ) :
" وهذه هى الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك والمسيح عيسى ( Ιησουνχριστον ) الذى أرسلته " .فمن أراد الحياة الأبدية فى جنة الخلد فما عليه إلا أن يمتلك مفتاحها . ومفتاحها هو معرفة أن لا إله إلا الله وأنَّ المسيح عيسى رسول الله . وحيث أنهم لم يعرفوا المسيح عيسى كرسول لله فقد ضاع منهم مفتاح المعرفة الذى ذكره لوقا فى إنجيله وقد سبق الكلام عنه تفصيلا فى كتابى " معالم أساسية فى الديانة المسيحية " .
وحيث أنَّ دين الله واحد لم يتغير فى يوم من الأيام ، وإنما شكل العبادة وتوقيتاتها وتشريعاتها من محرمات ومحللات كل ذلك كان خاضعا لعصر كل رسالة ومتطلباتها وظروف الأمَّة المعنية بالرسالة . فالدين الذى نادى به كليم الله موسىعليه السلام هو ذات الدين الذى نادى به الأنبياء من قبله والأنبياء من بعده .
فالمسيح عليه السلام لم يأت بدين جديد إلى بنى إسرائيل ، وإنما جاء على شريعة التوراة مضافا إليها ما آتاه الله من علم وحكمة والإنجيل ، وطوال فترة بعثته كان يصلى كما كان يصلى اليهود ويصوم مثل صيامهم ويحج مثلهم ولا يأكل إلا الطيب ويبتعد عن خبيث الطعام وكل ذلك موجود بالأناجيل الحالية .
وهذا الدين الذى جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه هو ذات الدين الذى جاء به خليل الرحمن محمدا صلى الله عليه وسلم . قال تعالى ] شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ ( 11 / الشورى ) . وقال تعالى ] وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين [ ( 46 / المائدة ) .
وهذا القول القرآنى يتطابق مع أقوال المسيح عليه السلام التى صَحَّت وورد بعضها فى الأناجيل التى بين أيدينا الآن مثل قوله عليه السلام الوارد فى إنجيل متى ( 5 : 17 ) : " لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء . ما جئت لأنقض بل لأكمل " . وهذا معناه أنَّ الدين الذى نادى به المسيح عليه السلام هو هو ذات الدين الذى نادى به الأنبياء من قبله . وما جاء إلا ليكمل المشوار ويصحح للناس أمور دينهم " للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد " . لا ليكمل التوراة وأحكامها بإلغاء حلالها وحرامها كما يزعمون . أليس هو القائل " الحق أقول لكم لن يزول حرف أو نقطة من الناموس حتى يكون الكل " ( متى 5 : 18 ) .
ولقد اختلفوا كثيرا فى معنى قوله عليه السلام " حتى يكون الكل " حتى صرَّح بعض مترجمى الأناجيل العربية بأنَّ " العبارة يصعب فهمها " (8) . مع أنَّ المعنى واضح جدا ولكن القوم لا يؤمنون بالشريعة الكل ..!!
وحيث أنَّ طريق الرسالات الإلهية واحد ، وركب البشرية سائر فيه يقودهم الأنبياء والمرسلون كلٌ على رأس أمَّته . ومحطات ذلك الطريق كثيرة بعدد الأنبياء والمرسلين . فى كل محطة ينضم إلى الركب نبىّ أورسول مع من آمن من أمَّته ، إلى أن نصل إلى المحطة الأخيرة حيث ينضم النبىّ الخاتم صلى الله عليه وسلم ( الكل ) وأمَّته إلى الركب ليقود البشرية إلى الله .
فإن أخذنا مثلا ركب موسى عليه السلام ومن معه من بنى إسرائيل ومن تبعه من أنبيائهم كأولون (9) ساروا على الطريق . ثم جاء ركب المسيح عليه السلام ومعه من آمن من قومه فانضموا إلى السائرين على الطريق من قبلهم . ثم جاء ركب النبىّ الخاتم عليه السلام ( الكل ) ومن آمن معه من جميع شعوب الأرض كآخر ركب انضم إلى السائرين على الطريق فالمسلمون هنا هم الآخرون توقيتا .
قال تعالى ] اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا [ ( 3 / المائدة ) .
موكب المؤمنون السائرون إلى الله
اليهـــــود
|
-
|
-
|
النصـارى
|
.....................
|
-
|
المسلمون
|
......................
|
.....................
|
|
المؤمنون بالتوراة
|
المؤمنون بالتوراة والإنجيل
|
المؤمنون بالتوراة والإنجيل والقرآن
|
جاء فى الحديث الشريف عن النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم قوله " نحن الآخرون .. السابقون يوم القيامة " (10) . ومعنى السابقون هنا الأولون كما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عدة أحاديث أذكر منها هنا الحديث الذى رواه الإمام البخارى فى صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال : من لى إلى نصف النهار على قيراط قيراط ..؟
فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط . ثم قال : من يعمل لى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ..؟
فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط .
ثم قال : من يعمل لى من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ..؟ . ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ، ألا لكم الأجر مرتين . فغضبت اليهود والنصارى فقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء ..!! قال الله تعالى : فهل ظلمتكم من حقكم شيئا ..؟ قالوا : لا .. قال الله تعالى فإنه فضلى أعطيه من شئت " (11) .
قلت جمال : يفهم من ذلك الحديث الشريف أنَّ الثواب على الأعمال ليس على قدر التعب ولا على جهة الاستحقاق ولكنه فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده . والمراد باليهود والنصارى فى الحديث هم الذين ثبتوا على دين الحق . أى اليهود العاملون بأحكام التوراة حتى زمن بعثة المسيح عليه السلام والنصارى العاملون بأحكام التوراة والإنجيل معاً حتى زمن بعثة النبىّ الخاتم صلى الله عليه وسلم . هؤلاء هم الأجراء المؤمنون الذين يغبطون الآخرون على فضل الله . أمَّا عن اليهود الذين لم يؤمنوا بالمسيح عليه السلام وبإنجيله فهم غير معنيين هنا ، وأيضا النصارى الذين آمنوا بالمسيح عليه السلام ولم يؤمنوا بالنبىّ الخاتم صلى الله عليه وسلم . فهؤلاء كافرون بكتب الله ورسله .
فالآخرون الأولون .. هم أتباع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومُحَمَّد وما أوتيه النبيون من ربهم . لا يفرقون بين أحد منهم . المؤمنون بصحف إبراهيم وتوراة موسى وبالإنجيل والقرآن ] أولئك يؤتون أجرهم مرتين [ ( 54 / القصص ) . وقال تعالى : ] للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم [ ( 172 / آل عمران ) . ويقول تعالى ] نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين [ ( 56 / يوسف ) . ويقول تعالى ] إنَّ الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور . ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله . إنه غفور شكور [ ( 29 ، 30 / فاطر ) .
وعن الذين يؤتون أجرهم مرتين .. فقد بين النبىّ الخاتم صلى الله عليه وسلم أنهم ثلاثة أنواع منهم : " .. رجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد عليه السلام .. " (12) . وذكر الرجال هنا للتغليب أى أنَّ النساء يسرى عليهن الحكم أيضا .
وقد بيَّن القرآن الكريم ذلك فى قوله تعالى ] ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما [(13) . فتضافرت الأخبار قرآنا وسنة بأنَّ المؤمنين والمؤمنات من هذه الأمَّة الإسلامية ( الآخرون توقيتا ) يؤتون أجرهم مرتين ليكونوا الأولين ثوابا عند الله . إنهم المقربون السابقون .
وبمثل تلك النصوص الإسلامية جاءت أقوال المسيحعليه السلام . فالمشكاة واحدة والأنبياء جميعا دعوتهم واحدة . لا يأخذ اللاحق منهم من أقوال السابق . ولكنهم جميعا يأخذون من نبع واحد وأصل واحد ، فتشابهت أقوالهم وأمثلتهم لأقوامهم .
جاء فى إنجيل متى ( 20 : 1 ـ 16 ) من نسخة الكاثوليك ط 1994 قول المسيح : " فملكوت السماوات كمثل صاحب كرم خرج مع الفجر ليستأجر عمالا لكرمه . فاتفق مع العمال على دينار فى اليوم وأرسلهم إلى كرمه . ثم خرج نحو الساعة التاسعة فرأى عمالا آخرين واقفين فى الساحة بطالين ، فقال لهم : إذهبوا أنتم أيضا إلى كرمى وسأعطيكم ما يحق لكم . فذهبوا . وخرج أيضا نحو الظهر ثم نحو الساعة الثالثة وعمل الشىء نفسه . وخرج نحو الخامسة مساءً ، فلقى عمالا آخرين واقفين هناك ، فقال لهم : مالكم واقفين هنا كل النهار بطالين ..؟ قالوا له : ما استأجرنا أحد . قال لهم : إذهبوا أنتم أيضا إلى كرمى . ولما جاء المساء قال صاحب الكرم لوكيله : ادع العمال كلهم وادفع لهم أجورهم مبتدئا بالآخرين حتى تصل إلى الأولين . فجاء الذين استأجرهم فى الخامسة مساءً وأخذ كل واحد منهم دينارا . فلما جاء الأولون ، ظنوا أنهم سيأخذون زيادة فأخذوا هم أيضا دينارا لكل واحد منهم ، وكانوا يأخذونه وهم يتذمرون على صاحب الكرم فيقولون : هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة فساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار وحرَّه ..!؟ فأجاب صاحب الكرم واحدا منهم : يا صديقى أنا ما ظلمتك أما اتفقت معك على دينار ..!؟ خذ حقك وانصرف . فهذا الذى جاء فى الآخر أريد أن أعطيه مثلك أما يجوز لى أن أتصرف بمالى كيفما أريد ..؟ أم أنت حسود لأنى أنا كريم ..؟
( وقال يسوع ) (14) : هكذا يصير الآخرون أولين ، والأولون آخرين " . انتهى .
قلت جمال :يعتبر هذا المثل الإنجيلى من بقايا الأقوال الصحيحة للمسيح التى تناثرت على صفحات الأناجيل مختلطة بأقوال الذين لا يعلمون .
والمقصود باليوم هنا هو امتداد عمر الدنيا ، أى فترة أعمال العباد فى حقل ربهم . والمقصود من قول المسيح عليه السلام " ولما جاء المساء " كناية عن يوم الدين حيث يوفى العاملون أجورهم . وإن دققنا النظر فى المثل جيدا نجد أنَّ فئات الأجراء العاملون فى الحقل ثلاثة . كل فئة تشير إلى أمَّة من الأمم .
فالعمال الذين تم جمعهم فى الفترة الواقعة بين الفجر وقبيل الظهر يشيرون إلى أمَّة بعينها .
والعمال الذين تم جمعهم فى الفترة الواقعة بين الظهر وقبيل الساعة الخامسة ( عصرا ) يشيرون إلى أمَّة ثانية .
والعمال الذين تم جمعهم فى الفترة بين العصر ( الساعة الخامسة ) وقبيل المغرب ( المساء ) يشيرون إلى أمَّة ثالثة .
تلك مفاهيم عامة فى المثل لا يختلف عليها المتفكرون ، ولا ينكرها إلا كل غبى جاهل معاند للحق . ولا مانع بعد ذلك من أن نفهم مواقف خاصة وخاصة جدا من النصّ قد نختلف فيها وعليها . ولكن بعد الاعتراف بتلك المفاهيم العامة الجامعة والعكس غير صحيح .
لقد خصص المفسرون الإنجيليون عمال الفترة الأولى والثانية ( من الفجر حتى الظهر ، ومن الظهر حتى العصر ) بالدعوة إلى يهود بنى إسرائيل . ثم خصوا عمال الفترة الثالثة ( من العصر حتى المغرب ) بالدعوة إلى الأمم . مع أنَّ دعوة المسيح عليه السلام لم تكن لغير يهود بنى إسرائيل كما سيأتى بيانه تفصيلا والبرهنة عليه . وسبب ذلك أنهم لا يعترفون بأنَّ هناك دعوة جديدة قد ظهرت للعالم منذ ألف وخمسمائة عام يدعى أصحابها بالمسلمين ..!!
فالعيب ليس فى النصّ الإنجيلى ولكن فى الذين ينظرون إليه وفى أعينهم خشبة المسيح عليه السلام التى أمرهم أن ينزعونها من أعينهم حتى يروا جيدا .
وإلى الآن لم يستطع الجهابذة من علماء المسيحية أن يتعرفوا على من رُمِز إليهم فى المثل بأنهم عمال محظوظون .
يقول أصحاب التفسير الحديث لإنجيل متى نشر دار الثقافة بالقاهرة ما نصّه " والنقطة الجوهرية فى هذا المثل ، هى أنَّ هذه السجايا لا تتوافر إلا فى الله وحده ، وأنَّ كرمه يسموا على كرم كل فكر بشرى عن العدل . فلم يحصل أحد من العمال على أقل مما يستحقه ، بل إنَّ البعض أخذ أضعاف أجره ، ولكن هذا الكرم كان جزاؤه بالطبع تذمر أولئك الذين لم يحصلوا إلا على الأجر المستحق لهم فقط . فمن كان المقصود بهذا المثل ..!؟ هل نستطييع تعيين من هم الذين رمز إليهم أنهم عمال محظوظون استئجروا فى وقت متأخر ، وكذلك الذين رمز إليهم بالعمال المنتظمين الذين ملأتهم الغيرة منهم ..!؟ " (14) .
قلت جمال : قطعا الإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة العويصة قد وصلت للقارىء ذى الفطرة السليمة من النصوص السابقة . فالمسلمون هم الأمَّة الأخيرة فعلة الساعة الأخيرة . وهاهم بشهادة المسيح نفسه الآخرون فى الظهور إلا أنهم الأولون فى الدخول إلى ملكوت الله أى جنة الله . جعل الله لهم الحسنة بعشر أمثالها بل بسبعمائة ضعف والسيئة بواحدة . وجعل التائب من الذنب كمن لا ذنب له . ومن كان آخر كلامه منهم لا إله إلا الله دخل الجنة . إضافة إلى الكثير مما لم يكن عند من سبقهم من الأمم .
ولقد ذكر متى فى إنجيله ( 8 : 11 ـ 13 ) قول المسيح : " إنَّ كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب فى ملكوت السماوات (15) . وأمَّا بنوا الملكوت (16) ( أى بنى إسرائيل الذين كفروا بالمسيح ومحمد وبين أيديهم التوراة والإنجيل ) فيطرحون إلى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان . وأورد لوقا فى ( 13 : 28 ) من إنجيله نصوصا مماثلة . ولم تأت أمَّة من المشارق والمغارب تؤمن بكافة الأنبياء إلا أمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وهى آخر أمَّة أرسل إليها رسول . وهى الأمَّة المبشر بها فى التوراة والإنجيل كما سبق بيانه .
قلت جمال :
إنَّ المتدبر فى أقوال المسيح عليه السلام والتى اتفق النقاد المسيحيون على صحتها . سوف يجدها متفقة تماما مع أقوال النبىّ الخاتم ( الكل ) صلى الله عليه وسلم . لأنهما يأخذان من مشكاة واحدة هى مشكاة رب العالمين عز وجل . كما أنَّ أقوال المسيح عليه السلام المتفق على صحتها من قِبَل النقاد لن يجد فيها الباحث ما يتعارض مع نصوص الإسلام . والخلاف الوحيد بين نصوص الإسلام ( قرآن وسنة صحيحة ) وبين المسيحية لم يكن أبدا للمسيح عليه السلام وأقواله يد فيه . وإنما وقع هذا الخلاف الدينى بين نصوص الاسلام وبين أقوال ومعتقدات رجال الكنائس المختلفة فيما بينها . فليفهم هذا جيدا .
وليحاول إخواننا فى المواطنة أن ينزعوا عنهم غلالة الحقد الأسود تجاه الإسلام ونبىّ الإسلام صلى الله عليه وسلم ليروا النور الذى جاء من أرض الجنوب .
ع . م / جمال الدين شرقاوى
هوامش
(1) .. يقول ديفد هل (David Hill) فى شرحه لإنجيل متى ما ترجمته : " أنَّ الكنيسة الأولى قد اعتبرت الابن
فى هذا المثل هو المسيح لكن الرأى الاقتراحى الأصلى فى المثل أن الابن يمثل ببساطة آخر رسل الله إليهم "
( تفسير القرن العشرين ـ إنجيل متى ص 299 )
(2) .. شرح إنجيل متى / ترجمة القمص مرقس داود ج2 ص 236 .
(3) .. دراسة فى الإنجيل كما رواه متى ص 63 للأب اسطفان شربنيية .
(4) .. التفسير الحديث / إنجيل متى ص 344 .
(5) .. وقد تم تغيير كلمة ( يؤمن به ) فى نسخة الآباء إلى كلمة ( يحفظه ) ..!!
(6) .. حديث صحيح رواه كل من أحمد والحاكم والبيهقى عن العرباض بن سارية . راجع تخريج أحاديث مشكاة
المصابيح للألبانى ج3 ص 127 .
(7) .. هامش ص 48 من إنجيل متى نسخة الآباء اليسوعيين ط 1991 .
(8) .. فى الواقع أن هناك أنبياء كثيرون سبقوا موسى ، ولكن القوم لا يعرفون إلا موسى كأول نبىّ ، وهم
معذورين فى ذلك لأنهم يسيرون خلف اليهود ، واليهود لا يعترفون بأنبياء قبل موسى . وإبراهيم وإسحاق
ويعقوب عليهم السلام يعتبرونهم آباء وليسوا بأنبياء ..!!
(9) .. مشكاة المصابيح بتحقيق الألبانى ج1 ص 427 حديث رقم 1354 ؛ 1355 . والحديث بطرقه رواه الامام
مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه .
(10) .. مشكاة المصابيح بتحقيق الألبانى ج 3 ص 1769 حديث رقم 6274 ؛ وراجع أيضا كل من : تحفة الأحوذى
ج 8 ص 176 ؛ الفتح الربانى ج23 ص 204 .
(11) .. رواه الشيخان فى صحيحيهما ، وباقى أصحاب السنن والمسانيد عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه .
(12) .. آية رقم 31 / الأحزاب .
(13) .. عبارة ( وقال يسوع ) غير موجودة فى جميع النسخ العربية والإنجليزية واليونانية , والكلام من بعدها من
قول صاحب الكرم أى الله سبحانه وتعالى .
(14) .. التفسير الحديث ـ إنجيل متى من ص 320 إلى ص 321 .
(15) .. ملكوت هنا بمعنى الجنة , مأوى الأنبياء والمرسلين والصالحين .
(16) .. والملكوت هنا بمعنى الدين , وبنوا الملكوت أى